الجهة الثانية: في حالة التسليم -جدلاً- بأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم ببناء أبي جندل رضي الله عنه المسجد على قبر أبي بصير رضي الله عنه وأقرَّه على ذلك فإنه يتعارض -حتمًا- مع النصوص الحديثية الصريحة في تحريم البناء على القبور، والمعلوم -حال التعارض- أنَّ من طُرُق دفعه إذا تعذَّر وجود ناسخ بالنصِّ صار الناظر إلى الجمع والتوفيق بين الدليلين المتعارضين فإن تعذَّر الجمع صار إلى النسخ الاحتمالي، وإلاَّ دَفَع التعارض بترجيح أقوى الدليلين (6 - انظر: «الإنارة شرح كتاب الإشارة» للمؤلف على الموقع: تحت عنوان «طرق دفع التعارض» (**********: AppendPopup(this,'pjdefOutline_6'))). وفي هذا المقام -وعلى فرض صحة الزيادة موضع الشاهد- فإنه يظهر جليًّا قَبول مدلولهما للنسخ الاحتمالي للعلم بتاريخهما وتفاوت المدة بينهما، إذ أنَّ الأحاديث الصريحة في تحريم البناء على القبور ثبتت في آخر حياته بخلاف الزيادة المذكورة فكانت متقدِّمة عنها، ونسخ المتقدم بالمتأخر متحقق بمعرفة تاريخ كل منهما، وعليه فلا يصح ترك النص المتأخر للمتقدم عند حصول التعارض بينها على ما تقرر أصوليًّا.
هذا، وعلى تقدير عدم معرفة التاريخ أو عدم الأخذ بمبدإ النسخ الاحتمالي فإنه يصار إلى الترجيح بين الدليلين المتعارضين، وبغض النظر عن مآل ترجيح الأحاديث الصحيحة والصريحة في النهي والحظر بقوة سندها، فإنها ترجح أيضًا من جهة مدلولها ومتنها، ويظهر ذلك من الجهتين الأصوليتن الآتيتين:
1 - من جهة المدلول:
إذا تعارض حاظر ومبيح يُقدَّم الحاظر على المبيح، والأحاديث الصحيحة والصريحة في بناء المساجد على القبور تفيد التحريم والحظر، بينما زيادة «وبنى على قبره مسجدًا» يفيد الإقرار عنه الجواز والإباحة، وقد تقرَّر عند الأصوليين أنَّ الدليل الحاظر مُقدَّم على المبيح؛ لأنَّ في التحريم دفعَ مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها بخلاف الجواز والإباحة فقد تحصل بها مصلحة أو تكمّلها، ولا يخفى اهتمام الشريعة وعنايتها بدرء المفاسد وآكديتها من جلب المصالح، ومن جهة أخرى إذا كان الوجوب مُقدَّمًا على الإباحة، والحظر مقدمًا على الوجوب على أرجح الأقوال، فمن بابٍ أولى تقديم الحظر على الإباحة والجواز، إذ ترك المباح لاجتناب المحرم أولى من العكس؛ ولأنَّ في التحريم مفسدة وعقابًا بخلاف الإباحة.
2 - من جهة المتن:
إذا تعارض القول مع الإقرار يقدَّم القول عليه؛ لأنه أقوى وأبلغ في البيان من الإقرار والسكوت، ولأنه إذا كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم أوكد من فعله إذ طاعته صلى الله عليه وآله وسلم في أمره أولى من موافقته في فعل لم يأمرنا بموافقته فيه، وتقرير هذا الحكم في تقديم القول على الفعل يقع من باب أولى على إقراره وسكوته.
فالحاصل أنَّ التمسُّك بقصة بناء أبي جندل رضي الله عنه على قبر أبي بصير رضي الله عنه مسجدًا شبهة غاية في الضعف والسقوط من المناحي السالفة البيان، والاستدلال بها إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين برد النصوص المحكمات بالمتشابهات، نعوذ بالله من الخذلان.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 صفر 1430ه
الموافق ل: 15 فبراير 2009م
1 - «الاستيعاب» لابن عبد البر: (4/ 1613).
2 - «ميزان الاعتدال» للذهبي: (4/ 214)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر: (10/ 362)، «تقريب التهذيب» لابن حجر: (2/ 286).
3 - «تهذيب التهذيب» لابن حجر: (10/ 362).
4 - «تحذير الساجد» للألباني: (119).
5 - انظر: «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني: (437) بتحقيقي. دار تحصيل العلوم.
6 - انظر: «الإنارة شرح كتاب الإشارة» للمؤلف على الموقع: تحت عنوان «طرق دفع التعارض» ( http://www.ferkous.com/rep/C8.php).
المصدر ( http://www.ferkous.com/rep/M37.php)
ـ[محمود المغناوي]ــــــــ[10 - 12 - 10, 09:53 م]ـ
في رد شبهة قبوري بآية:
?لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا? [الكهف: 21]
للشيخ محمد علي فركوس حفظه الله
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
¥