هذا إلى جانب تحامله الواضح على بني أمية وتزييفه المكشوف وخاصة عند حديثه عن وقعة الحرة، حيث إنه وصف الوقعة وصفاً مسهباً وبصورة مروعة في ختام المجلد الأول من كتابه مستشهداً بمختارات من الفظائع التي يتهم جيش بني أمية بارتكابها أثناء أيام الإباحة الثلاثة، بينما نجده يورد تصويراً آخر للأحداث نفسها حين انتقل إلى المجلد الثاني، وكأنه نسي تلك القصة المخيفة التي ذكرها من قبل.
إذاً فلا يجوز مطلقاً الاعتماد على هذا الكتاب مصدراً لتاريخ بني أمية، دون دراسته دراسة مستوفاة بالبحث عن مؤلفه الحقيقي.
وثمة (مصادر أقل أهمية) من المصادر الأساسية، وتعتبر من المصادر الثانوية، ولا يحل أحدها بديلاً عن المصادر الأساسية، وهي على الرغم من ذلك اعتمد عليها بعض المؤرخين مصادر لإثبات إباحة المدينة؛ بل إن بعضاً منهم يستند إلى واحد منها مصدراً أساسياً لحادثة المدينة مغفلاً المصادر الأساسية لهذه الفترة.
من هذه المصادر الثانوية كتاب "الفخري في الآداب السلطانية" لمؤلفه ابن الطقطقي الذي انتهى من تأليفه في الموصل سنة 701هـ، فهو إلى جانب كونه متأخراً عن الأحداث التي نحن بصدد مناقشتها، فقد كان شيعياً وسمات الشيعة واضحة في كتابه ^21^،كما أنه أحد القلة الذين بالغوا في وصف أحداث إباحة المدينة وبشكل لم نجد له ما يؤيده في المصادر الأساسية ^22^.
والمصدران الآخران من المصادر الثانوية هما كتاب "الأغاني" للأصفهاني (ت-356هـ) و"العقد الفريد" لابن عبدربه (ت-328) ومن المعروف أنه لا يمكن للباحث الاعتماد على هذين الكتابين مصدرين أساسيين لحادثة مثل حادثة إباحة المدينة؛ ولكن لا بأس من الإشارة إليهما مصادر مساعدة لترجيح رأي على آخر مع التحفظ الشديد والحذر البالغ لأنهما يفتقدان الصفات المتوفرة في كتب المصادر الأساسية، ولا يرقيان إلى مستواها.
وإذا كنا قد طالبنا بتبني منهج التحقيق من شخصيات الرواة عند الطبري ومقارنة رواياتهم، بحثاً عن الحقيقة، فيجب أن يكون موقفنا أكثر حيطة وأشد تحفظاً من المصادر الأخرى لأن معظمها لم تزودنا بأسماء رواتها؛ بل اكتفت بنقل رواية واحدة فقط، ونحن نعرف أن مؤلفيها لم يعاصروا الأحداث التي أرخوا لها، فاحتمال اختيار كل مؤلف من هؤلاء إحدى الروايات التي وصلت إليه وإغفال البقية وارد تماماً، كما لا يستطيع أحد أن ينفي احتمال تدخل ميول المؤلف، أو جهله بالأحداث، في تحديد موقفه منها.
إباحة المدينة في الكتب الحديثة
لقد اخترت من هذه الكتب مجموعة معينة هي الأكثر تداولاً في أوساط طلبة الجامعات، وبين محبي دراسة التاريخ الإسلامي، وليس هدفي من مناقشتها هنا تجريحها، أو الإنقاص من مؤلفيها، ولكنني أشعر بواجب علمي نحو ضرورة تنقية تاريخنا الإسلامي مما علق به من شوائب. وما أورده هؤلاء الأساتذة لا يعدو أن يكون اجتهاداً، والاجتهاد يحتمل الخطأ والصواب، وإذا وقع الأول فلا أشك لحظة واحدة في سوء قصدهم في وقوعه، فهدفنا البحث عن الحقيقة أيّاً كانت، عبر مناقشة علمية أمينة.
أولاً: كتاب "تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي" تأليف د-حسن إبراهيم حسن. يقول:
"فسار إليها (مسلم) وهو مريض وحاصرها من جهة الحرة من ظاهر المدينة وفتحها ثم أباحها للجند ثلاثة أيام.
وأسرف هو وجنده في القتل والنهب والاعتداء فلقبوه مسرفاً لذلك. وقد استشهد في تلك المعركة التي كانت شراً على الإسلام والمسلمين زهرة أهل المدينة من الفرسان وخيرة أصحاب الرسول. وهكذا أباح الأمويون المدينة ودنسوها" ^23^.
وأغفل المؤلف هنا الإشارة إلى المصادر التي اعتمد عليها في تأكيد وقوع حادثة إباحة المدينة ولم يقم بإجراء أي تحليل تاريخي للحادثة، وكأن القضية في نظره أصبحت من الحقائق المسلم بها، وختم ذلك بتقرير قاطع يوحي للقارئ بأن الحادثة حقيقة لا جدال فها. ولكي يصدر مؤرخ حديث حكماً يمثل هذه الخطورة يتوقع أن يتم ذلك بعد دراسة مستفيضة لجميع مصادر الحادثة وكافة جوانب الموضوع، ويقدم المبررات التاريخية المقنعة التي قادته إلى إطلاق هذا الحكم، أما من غير ذلك فهو منهج لا يخدم الحقيقة. وإذا كان هذا المؤرخ ممن يحتمل مكانة مرموقة –كما هو الحال بالنسبة إلى المؤلف- فالخطورة أعظم لأن ذلك يعني احتمال اقتباس آرائه من قبل من يأتي عده، أو من هم أقل منه، أو من تلامذته. مع العلم بأن المعلومات
¥