أما أن المجال مجال مناقشة هذه النتيجة فلا وإنما المراد هو إطلاع القارئ على صورة البحث العلمي عند المسلمين وصورة هذا البحث العلمي عند رؤوس الاستشراق، وطريقتهم في الاستنتاج. ولكن مضرب المثل في الوقاحة الدراسية – إن صح التعبير – هو ما اكتشفه فنسنك حول شخصية بحيرا، والذي حرص على ذكره، وهو إن " الروايات الإسلامية حول شخصية بحيرا قد جمعت كلها بالتفصيل في (سفر بحيرا) لكاتب مسيحي في حوالي القرن الحادي عشر أو الثاني عشر – يدعى " إشو عيب " وقد ورد في الكتاب كيف لقن سرجيوس (وهو الاسم الحقيقي لبحيرا) محمداً ? عقيدته وشرائعه وأجزاء من القرأن، وذلك بقصد إن يجعل العرب يعترفون بإله واحد.
ولم يعلق الأستاذ العالم المنهجي (فنسنك) بحرف واحد يدل على القيمة التاريخية لهذه المقولة، وكأن الروايات إذا أريد بها إظهار معرفة أحبار أهل الكتاب برسول الله صلوات الله عليه قبل مبعثه فهي أساطير كلها، وإذا أريد بواحدة منها إن " محمداً نبي كاذب كان يتلقى توجيهه من راهب ملحد " فهاهنا لا تعليق. وهذا هو نتاج المنهج العلمي والأمانة العلمية عند المستشرقين.
أول الخلق:
إلا إن قصة " بحيرا " لم تسجل في الضمير الشعبي للأمة مثلما سجلت مجموعة من التصورات والمواقف حول النبي المبارك الكريم، وهذه التصورات والمواقف محتاجة إلى عرضها على ميزان النقد العلمي الذي رأيناه آنفاً عند المسلمين، فكثير من المآذن في (مصر) مثلاً تردد – بعد الأذان – الصلاة على (أول خلق الله)، ومع ذلك لم يتبادر إلى ذهن أحد من المصلين إن المقصود هنا هو (آدم) عليه السلام، وإنما المستقر في ضميرهم جميعاً – سواء أقره بعضهم أو رفضه البعض الآخر – هو إن أول خلق الله هو محمد ?، وقد تضافرت على صنع هذا التصور مجموعة من الأحاديث لمشتهرة على اللسنة، مثل:
• كنت أول الناس في الخلق وأخرهم في البعث ".
• كنت أول النبيين في الخلق وأخرهم في البعث ".
وهذه الأحاديث وما في معناها ليس مما يتوقف عندما لوهاء أسانيدها ():
- فقد رواه (أبو نعيم) في دلائل النبوة، وابن أبى حاتم في تفسيره، وتمام في فوائده، كل هؤلاء من طرق عن سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبى هريرة مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف فيه شذوذ يزيده ضعفا وسبب الضعف هو سعيد بن بشير، ضعفه ابن معين والبخاري والنسائي، وحسبك هؤلاء ()، وضعفه غيرهم، قال ابن حبان في المجروحين. " وكأن ردئ الحفظ، فاحش الخطأ، يروي عن قتادة مالا يتابع.
قلت: وهذا الحديث من طاماته وغرائبه فقد أوردة الذهبي في (الميزان) مثالاً على غرائبه ().
والذي يدل على شذوذ هذا الإسناد أن غير سعيد بن بشير قد رواه عن قتادة مرسلاً، ومنهم من رواه عنه موقوفاً. فهذا اضطراب في الإسناد إلى جانب ضعف سعيد.
فإن صح المرسل كان ضعيفاً لإرساله، ولأنه مخالف للفظ أصح منه، وهو الحديث الذي رواه أحمد في (السنة) والطبراني في المعجم الكبير عن ميسرة الفجر - ? - قال: " كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد ".
وذكره الحافظ بن حجر في (الإصابة) في ترجمة ميسرة الفجر، قال " وهذا سند قوى، ثم ذكر إسناد الإمام أحمد وقال: " وسنده صحيح " ().
قلت وهذا اللفظ هو الذي رواه الأئمة، وصححه من صححه منهم مثل ابن حبان والحاكم، ورواه الترمذي عن أبى هريرة إنه قال للنبي ? " متي كتبت نبياً؟ " قال " كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد ".
واللفظ هنا يدل على أن النبي صلوات الله عليه كتبت نبوته قبل خلق آدم، لا أنه خلق قبل آدم، وهو من شريف قضاء الله الذي قضاه في الأزل. فوقع سوء الفهم من الناس، ثم حملوا قتادة رحمة الله – احتملها. ومن ثمة قال الشيخ الألباني بعد تضعيفة للحديث الأول، وذكره لهذا اللفظ.
وسنده صحيح لكن لا دلالة فيه على إن النبي ? أول خلق الله تعالى – خلاقاً لما يظن البعض – وهذا ظاهر بأدنى تأمل " ().
هذا ولا بد من إشارة إلى وهم وقع بعض جامعي الحديث، أوقعهم فيه عدم الدربة الكافية في نقد الأسانيد أو التعجل في الحكم أو التقليد، فقد قال السخاوي في (المقاصد الحسنة)، وتابعه العجلوني في (كشف الخفا) عن الحديث الأول:
" وله شاهد من حديث الفجر ".
وقال الشوكاني – بعد أن ذكره في (الفوائد المجموعة) ():
¥