و بقية خبر الطبري يفيدنا أنه لقي آذاناً صاغية في البصرة، و إن كان لم يصرح لهم بكل شيء، فقد قبلوا منه واستعظموه، و شاء الله أن تحجم هذه الفتنة و يتفادى المسلمون بقية شرها و ذلك حينما بلغ والي البصرة ابن عامر خبر ابن سبأ، فأرسل إليه و دار بينهما هذا الحوار: (ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام والجوار، فقال ابن عامر: ما يبلغني ذلك! اخرج عني، فأخرجه حتى أتى الكوفة. تاريخ الطبري (4/ 326 - 327).
ظهوره في الكوفة:-
الذي يبدو أن ابن سبأ بعد إخراجه من البصرة وإتيانه الكوفة، لم يمكث بها طويلاً حتى أخرجه أهلها منها، كما في بقية خبر الطبري (4/ 327): (فخرج حتى أتى الكوفة، فأخرج منها فاستقر بمصر و جعل يكاتبهم و يكاتبونه، و يختلف الرجال بينهم).
لكنه وإن كان قد دخل الكوفة ثم أخرج منها سنة (33هـ)، إلا أن صلته بالكوفة لم تنته بإخراجه، فلقد بقيت ذيول الفتنة في الرجال الذين بقي يكاتبهم و يكاتبونه. الطبري (4/ 327) وابن الأثير (3/ 144).
ظهوره في الشام:-
في ظهور ابن سبأ في الشام يقابلنا الطبري في تاريخه نصان، يعطي كل واحد منهما مفهوماً معيناً، فيفيد النص الأول أن ابن سبأ لقي أبا ذر بالشام سنة (30هـ) و أنه هو الذي هيجه على معاوية حينما قال له: (ألا تعجب إلى معاوية! يقول المال مال الله، كأنه يريد أن يحتجزه لنفسه دون المسلمين؟ وأن أبا ذر ذهب إلى معاوية وأنكر عليه ذلك). تاريخ الطبري (4/ 283).
بينما يفهم من النص الآخر: أن ابن سبأ لم يكن له دور يذكر في الشام، وإنما أخرجه أهلها حتى أتى مصر، بقوله: (أنه لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام) تاريخ الطبري (4/ 340).
و يمكننا الجمع بين النصين في كون ابن سبأ دخل الشام مرتين، كانت الأولى سنة (30هـ)، و هي التي التقى فيها بأبي ذر، و كانت الثانية بعد إخراجه من الكوفة سنة (33هـ)، و هي التي لم يستطع التأثير فيها مطلقاً، و لعلها هي المعنية بالنص الثاني عند الطبري.
كما و يمكننا الجمع أيضاً بين كون ابن سبأ قد التقى بأبي ذر سنة (30هـ)، و لكن لم يكن هو الذي أثر عليه و هيجه على معاوية، و يرجح هذا ما يلي:-
1 - لم تكن مواجهة أبي ذر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه وحده بهذه الآراء، و إنما كان ينكر على كل من يقتني مالاً من الأغنياء، و يمنع أن يدخر فوق القوت متأولاً قول الله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة} [التوبة/34].
2 - حينما أرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه أمر أبي ذر، لم تكن منه إشارة إلى تأثير ابن سبأ عليه، و اكتفى بقوله: (إن أبا ذر قد أعضل بي و قد كان من أمره كيت و كيت .. ). الطبري (4/ 283).
3 - ذكر ابن كثير في البداية (7/ 170، 180) الخلاف بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه السابق، و لم يرد ذكر ابن سبأ في واحد منها، و إنما ذكر تأول أبي ذر للآية السابقة.
4 - ورد في صحيح البخاري (2/ 111) الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر و معاوية، و ليس فيه أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى ابن سبأ، فعن زيد بن وهب قال: (مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا و فيهم، فكان بيني و بينه في ذلك، و كتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل .. ).
5 - و في أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة، أوردت المحاورة التي دارت بين معاوية وأبي ذر ثم نزوله الربذة، و لكن شيئاً من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر. الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 214) و أسد الغابة لابن الأثير (1/ 357) والإصابة لابن حجر (4/ 62).
6 - وأخيراً فإنه يبقى في النفس شيء من تلك الحادثة؛ إذ كيف يستطيع يهودي خبيث حتى و لو تستر بالإسلام أن يؤثر على صحابي جليل كان له من فضل الصحبة ما هو مشهود.
ظهور ابن سبأ في مصر:-
¥