العقائد الضالة، و فيهم من أثقل كاهله خير عثمان و معروفه نحوه، فكفر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة و التقدم بسبب نشأته في أحضانه، و فيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان، و لو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين، و فيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة، فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانه، و بالإجمال فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان رضي الله عنه وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثيرين فيه، و أرادوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم.
و لعله بعد هذا لا يبقى مكان و لا مصداقية للروايات التي تشرك الصحابة رضوان الله عليهم في قتل عثمان و التآمر عليه، فقد اجتهدوا في نصرته و الذبّ عنه، و بذلوا أنفسهم دونه، فأمرهم بالكف عن القتال و قال إنه يحب أن يلقى الله سالماً ولوا أذن لهم لقاتلوا عنه، فثبتت براءتهم من دمه رضوان الله عليهم كبراءة الذئب من دم يوسف.
و ظهرت حقيقة الأيدي التي كانت تحرك الفتنة، و التي لطالما دندن الإخباريون الشيعة حولها بأنها أيدي الصحابة، و الحمد لله فقد حفظت لنا كتب المحِّدثين الروايات الصحيحة و التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان و المنافحين عنه المتبرئين من قتله، و المطالبين بدمه بعد قتله، و بذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها.
و قد يتساءل قارئ أو يقول قائل: كيف قتل عثمان رضي الله عنه و بالمدينة جماعة من كبار الصحابة رضوان الله عليهم؟ و هو سؤال وضعه ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 197 - 198) ثم أجاب عنه و قد شاركه المالقي في التمهيد والبيان (ص 131 - 132) في الإجابة، موضحين ما يلي:-
أولاً: إن كثيراً من الصحابة أو كلهم لم يكونوا يظنون أن يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الخوارج لم
يكونوا يحاولون قتله عيناً بل طلبوا من أحد أمور ثلاثة: إما أن يعزل نفسه أو يسلم إليهم مروان بن
الحكم أو يقتلوه. و كانوا يرجون أن يسلم إليهم مروان – لأتهم يتهمونه بأنه هو الذي كتب الكتاب
على لسان عثمان يأمر فيه والي مصر بقتلهم، و هذا لم يثبت و ليس هناك دليل صحيح - أو أن
يعزل نفسه و يستريح من هذه الضائقة الشديدة. و أما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، و لا أن
هؤلاء يجرؤن عليه إلى هذا الحدّ.
ثانياً: إن الصحابة دافعوا عنه، لكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم حقناً
لدماء المسلمين ففعلوا، فتمكن المحاصرون مما أرادوا.
ثالثاً: أن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في موسم الحج و غيبتهم في الثغور و الأمصار،
و ربما لم يكن في المتبقين من أهل الدينة ما يقابل عدد الخوارج الذين كانوا قريباً من ألفي مقاتل.
رابعاً: إن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار لحماية عثمان رضي الله عنه، لكن عثمان علم أن في
الصحابة قلة عدد و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم، فلو أذن لهم بالقتال لم يأمن أن يتلف من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه كثير، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم لأنه راع
عليهم، و الراعي يجب عليه أن يحفظ رعيته بكل ما أمكنه، و مع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم
بنفسه - حقناً لدماء المسلمين-.
خامساً: أنه لما علم أنها فتنة، و أن الفتنة إذا سلّ فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق القتل،
فلم يختر لأصحابه أن يسلوا السيف في الفتنة إشفاقاً عليهم، و حتى لا تذهب فيها الأموال و يهتك
فيها الحريم فصانهم عن جميع هذا.
سادساً: يحتمل أن يكون عثمان رضي الله عنه صبر عن الانتصار ليكون الصحابة شهوداً على من ظلمه،
و خالف أمره و سفك دمه بغير حق، لأن المؤمنين شهداء الله في أرضه.
¥