قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/ 286): و من المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء و أصبر الناس على من نال من عرضه و على من سعى في دمه، فحاصروه و سعوا في قتله و قد عرف إرادتهم لقتله، و قد جاءه المسلمون ينصرونه و يشيرون عليه بقتالهم، و هو يأمر الناس بالكف عن القتال، و يأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم .. و قيل له تذهب إلى مكة فقال: لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف.
فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين.
و مما يناسب هذا المقام ذكر كلام الإمام الآجري في كتاب الشريعة (4/ 1981 - 1983) عن موقف الصحابة في المدينة من حصار المنافقين لعثمان رضي الله عنه.
قال الآجري: فإن قال قائل: فقد علموا أنه مظلوم وقد أشرف على القتل فكان ينبغي لهم أن يقاتلوا عنه،
و إن كان قد منعهم. قيل له: ما أحسنت القول، لأنك تكلمت بغير تمييز. فإن قال: ولم؟ قيل: لأن القوم كانوا أصحاب طاعة، وفقهم الله تعالى للصواب من القول و العمل، فقد فعلوا ما يجب عليهم من الإنكار بقولهم و ألسنتهم و عرضوا أنفسهم لنصرته على حسب طاقتهم، فلما منعهم عثمان رضي الله عنه من نصرته علموا أن الواجب عليهم السمع و الطاعة له، و إنهم إن خالفوه لم يسعهم ذلك، و كان الحق عندهم فيما رآه عثمان رضي الله عنه و عنهم. فإن قال: فلم منعهم عثمان من نصرته وهو مظلوم، و قد علم أن قتالهم عنه نهي عن منكر، و إقامة حق يقيمونه؟ قيل له: وهذا أيضاً غفلة منك. فإن قال: وكيف؟ قيل له: مَنْعه إياهم عن نصرته يحتمل وجوهاً كلها محمودة:-
أحدها: علمه بأنه مقتول مظلوم، لا شك فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه: إنك تقتل مظلوماً فاصبر، فقال: أصبر. فلما أحاطوا به علم أنه مقتول و أن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له حق كما قال لا بد من أن يكون، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر فصبر كما وعد، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه و الذب عنها فليس هذا بصابر إذ وعد من نفسه الصبر، فهذا وجه.
و وجه آخر: و هو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد، و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم؛ لأنه راع و الراعي واجب عليه أن يحوط رعيته بكل ما أمكنه، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه، و هذا وجه.
و وجه آخر: هو أنه لما علم أنها فتنة و أن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق، فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف، و هذا إنما إشفاقاً منه عليهم هم، فصانهم عن جميع هذا.
و وجه آخر: يحتمل أن يصبر عن الانتصار ليكون الصحابة رضي الله عنهم شهوداً على من ظلمه و خالف أمره و سفك دمه بغير حق، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه، و مع ذلك فلم يحب أن يهرق بسببه دم مسلم ولا يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراقه دم مسلم، و كذا قال رضي الله عنه. فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقاً معذوراً رشيداً، و كان الصحابة رضي الله عنهم في عذر، و شقي قاتله.
و مما سبق نعلم أن منهج عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة و مسلكه مع المنافقين - هذا مصطلح نبوي أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم على الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه، لحديث (… فأرادك المنافقون أن تخلع .. الخ، تقدم تخريجه -، الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث، ولا ضغط الواقع، بل كان منهجاً نابعاً من مشكاة النبوة، حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر و الاحتساب و عدم القتال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وقد وفىّ ذو النورين رضي الله عنه بوعده و عهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته، حتى خرّ شهيداً مضجراً بدمائه الطاهرة الزكية، ملبياً لدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإفطار عنده. انظر: استشهاد عثمان لخالد الغيث (ص116) بتصرف يسير.
¥