و يورد شيخ الإسلام في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى (35/ 50 و 54 و 56 و 69) رأي أهل السنة في هذه المسألة مستبعداً رأي أهل البدع من الخوارج و الرافضة و المعتزلة الذين جعلوا القتال موجباً للكفر أو الفسق، فيقول: و أهل السنة و الجماعة و أئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة بل يمكن أن يقع الذنب منهم، والله يغفر لهم بالتوبة و يرفع بها درجاتهم، و إن الأنبياء هم المعصومون فقط، أما الصديقون و الشهداء و الصالحون فليسوا معصومين، و هذا في الذنوب المحققة، و أما اجتهادهم فقد يصيبون فيه أو يخطئون، فإذا اجتهدوا و أصابوا فلهم أجران، و إذا اجتهدوا و أخطأوا فلهم أجر واحد على اجتهادهم، و جمهور أهل العلم يفرقون بين الخوارج المارقين و بين أصحاب الجمل و صفين ممن يعد من البغاة المتأولين، و هذا مأثور عن الصحابة و عامة أهل الحديث، و الفقهاء و الأئمة.
يقول ابن حجر في الفتح (13/ 37): و اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، و لو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد و قد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، و أن المصيب يؤجر أجرين.
و هكذا نأخذ من مجموع كلام هؤلاء الأئمة، أن الموقف مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم هو الإمساك و عدم الخوض، و هذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت كما عند الطبراني و غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا. أنظر: السلسة الصحيحة (1/ 75).
و قد فسر المناوي في فيض القدير (2/ 676) الحديث بأن معناه: ما شجر بينهم - أي الصحابة - من الحروب والمنازعات.
يقول الحافظ الذهبي في السير (3/ 128): فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب، مفرطاً في البغض، و من أين يقع له الإنصاف و الاعتدال؟! فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق و اتضح من الطرفين و عرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، و تبصرنا فعذرنا و استغفرنا و أحببنا باقتصاد، و ترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفور، و قلنا كما علمنا الله {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا} و ترضينا أيضاً عمن اعتزل الفريقين كسعد ين أبي وقاص و ابن عمر و محمد بن مسلمة و سعيد بن زيد و خلق، و تبرأنا من الخوارج الذين حاربوا علياً و كفروا الفريقين.
فهذه مقتطفات عاجلة من معتقد أهل السنة و الجماعة في الصحابة، و تلك قناعات و منطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين ولا تتأثر بتشكيك المشككين.
و إذا كانت أعراض المسلمين بشكل عام مصونة في الإسلام، فأعراض الصحابة و هم أهل الفضل و السابقة و الجهاد أولى بالصيانة، و الدفاع عنهم قربة لله عز وجل و تقديراً لمآثرهم و جهادهم.
و أخيراً لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة و لماذا الدفاع عنهم؟
أقول: إن هناك مكمن خطر في سبهم أو التعريض بهم و بعدالتهم، فهم نقلة الدين و الطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين.
وإن من أسوأ الأخطاء المنهجية والتربوية معاً، تدريس الحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة لتلاميذ المدارس، مع ما يصاحب ذلك من تشويه في العرض، و تقصير في تعريف التلاميذ بمنزلة الصحابة و فضلهم و حقهم على الأمة، حيث ينشأ عن ذلك تعارض في أذهانهم بين الصورة الفطرية التي تصوروها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ما ينبغي أن يكونوا عليه من الاستقامة، و بين الصورة التي تلقوها من المدرسة، فلا يستطيعون معرفة الحق من ذلك ولا يستوعبونه نظراً لصغر سنهم، و لقلة ثقافتهم، حتى لو حاولت أن توضح لهم الصورة الصحيحة فإنهم لا يكادون يقتنعون لأن الشبهة التي أثيرت قد انقدحت في أذهانهم.
و هذه المسارعة في عرض مثل هذه المادة التاريخية على صغار التلاميذ أو عوام الناس مخالف للقواعد الأصولية مثل قاعدة: (سد الذرائع). و قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). و مخالف أيضاً للقواعد التربوية التي تقتضي أن لا يعرض على الناس أكثر مما لا تحتمله عقولهم.
¥