وأول بداية لكتابة "سلوة الأنفاس" كانت حدود عام (1302)؛ حيث بدأ الإمام محمد بن جعفر الكتاني في جمع بطاقات كتابه، وجذاذات أخبار الفاسيين، التي لا يزال ورثته يحتفظون بها، ليتم كتابه بعد أربعة عشر عاما.
ويتحدث ابن عمة المؤلف وتلميذه الشيخ عبد الحي الكتاني عن بدايته في تأليف "السلوة" في كتابه "إعلام الحاضر والآت" (1/ 5) ناقلا عنه: ((إن سبب وضعه واهتمامه بجمعه: هو أنه كان كثير الدوران على مقابر الصالحين والصالحات بفاس الجديد والبالي وغيرهما، فكانت المقابر التي يقصد ينسى اسم أصحابها، فصار يقيدهم في جريدة، ثم صار يكتب وفاة كل واحد بإزاء اسمه، ثم صار يلحق ما وقع له من كراماتهم وخوارقهم إلى أن أصبحت الجريدة في كراسة ثم في كراريس .. نعم؛ بعد أن صار كتابا واسعا في مناقب الصالحين والعلماء المدفونين بفاس، وكثر التعليق والسؤال والبحث من آل زيد عما قال الكتاني في جدهم عمرو، واضطر لأن يكون كتاب تراجم بالوفيات والولادات والمشيخات، والحلا والأمداح على عادة كتب التاريخ ... )).
وقد رتب المؤلف كتابه على مقدمة، وموضوع، وخاتمة ...
أما المقدمة: فقد قسمها إلى قسمين:
قسم تمهيدي تاريخي؛ تكلم فيه عن سبب تأليف الكتاب، وتوسع بحثا في ذكر مناقب أعلام فاس، وكثرة من تخرجوا منها، ووصف إهمال المغاربة تدوين آثارهم. وكذا سرد فيه جملة من الكتب التي ألفت في تاريخ فاس، واصفا إياها وصفا عاما، واضعا مقارنة بين كل كتاب وآخر.
ثم يتكلم (1: 10) عن منهجه في كتابة "السلوة"، مبرزا أن: ((الغرض – أولا - ذكر كل من اطلعت عليه من أولياء هذه البلدة وعلمائها بعد البحث الشديد، والتنقيب البالغ الأكيد ... فإذا به عاقني عنه بعض الموانع هنالك؛ فاقتصرت على من وقفت على التعريف به، أو له ظهور واشتهار فأذكره بسببه، وتركت كثيرا ممن اشتملت عليه الدور والبساتين والرحاب؛ لما عرض لي في بعضهم من الخلاف المفضي إلى الوهم والشك والارتياب ... إلخ)).
أما القسم الثاني من المقدمة؛ فقد قسمه إلى ثلاثة أقسام: مقدمة أولى وثانية وثالثة. جعلها دراسة شرعية في أحكام زيارة الأولياء الصالحين، وآدابها، ومراسيمها، مستنكرا بعض ما شاع من البدع والمنكرات في هذا الميدان، وذابا – كذلك – عن عدة من المراسيم والآداب والعادات في الدفن والزيارة، التي شاعت – خاصة عند المتأخرين – الشيء الذي يظهر جليا مدى تأثير الاتجاه السلفي والوهابي في الساحة المغربية ذلك الوقت، وطريقة تعامل المؤلف معها.
وجعل المقدمة الأولى: في الحث على التبرك بذكر الصالحين، والعلماء العاملين، والاستماع لخبرهم، والتلذذ بجميل سيرهم.
أما المقدمة الثانية: ففي حكم الزيارة، وذكر بعض فضائلها وفوائدها المختارة، وفوائد وجود الأولياء بيننا، وظهورهم وظهور أضرحتهم لنا.
ويلمس القارئ في هذا الفصل اعتدال المؤلف – رضي الله عنه – والتزامه السنة النبوية وأفعال السلف الصالح، ومراعاته لفلسفة التشريع في مختلف فتاواه وآرائه في هذا الشان.
ثم أنهى المؤلف – رضي الله عنه – هذا الفصل بتنبيهات مهمة، تتعلق بالأولياء وما يتعلق بهم من الأمور العقيدية والصوفية التي كان يؤمن بها المؤلف ويذب عنها.
أما المقدمة الثالثة: فهي في كيفية الزيارة، وبعض آدابها، وما ينبغي للزائر أن يفعله بسببها. وقد فصل المؤلف – رضي الله عنه – في هذا الفصل بذكر عدة مباحث مهمة؛ كوصول ثواب القراءة للميت، ثم آداب الزيارة، ومنهياتها. وأورد في هذا الباب عناوين كثيرة أشبعها بحثا وتفنيدا، ثم ختمها بتنبيهات تتعلق بمواضيع المقدمة المذكورة.
وتعد هذه المقدمة مؤلفا حافلا في زيارة القبور وأحكامها؛ انتهج فيه مؤلفه ذكر رأيه أولا، معضدا بالكتاب والسنة، ثم المذهب المالكي، ثم آراء مختلف الفقهاء والعلماء رضي الله عنهم، ثم يذكر الخلاف في تلك المسألة.
وهذا النهج لم يعه جملة من قراء "السلوة" ودارسيها؛ فظنوا ظنونا بمؤلفها، وفهموا بعض كلامه على غير وجهه؛ كالقول بتقبيل القبور، والانحناء لها، والجثو بين يديها، والمؤلف إنما أنكر ذلك، وأشهر عدم جوازه أو استحبابه. إنما نقل نقولا في جوازه في معرض ذكر الخلاف بين الفقهاء، لا تقريرا. وكذلك الحال في دعاء أهلها والاستغاثة بهم.
¥