تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كلامهم موجود بأوجز لفظ، وأخصر عبارة. ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله. ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم، ولا يلم به.فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع مايقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحه من سقيمه، وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل. فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك، كما يُرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه، فهو لجهله يجوِّز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يُعرفُ به صحيحُ ذلك وسقيمه.

قال الأوزاعي: العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم.

إلى أن قال ابن رجب: فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق والمعارف، وغير ذلك،

والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه

ثانيا.وفي ذلك كفاية لمن عَقَل، وشُغْلٌ لمن بالعلم النافع عُنِي وشُغِل.ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل، واستعانه عليه أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية الله.

(فضل علم السلف على الخلف لا بن رجب /41، 45)

ومع الأسف الشديد أنه كثر في زماننا هذا الإعراض عن العلم النافع الأصيل الذي وصفه ابن رجب رحمه الله في كلامه، والعزوف عن أهله ودروسهم ومحاضراتهم التي يفسرون فيها كلام الله، ويشرحون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبينون الأحكام الشرعية مستظلين بكلام السلف الصالح وفهمهم ومنهجهم من غيرتكلف أو تعقيد، فصار هذا عند كثير من الناس شيئا تقليديا أو سطحيا كما يسمونه لا يحرصون عليه، ولا ينجذبون إليه، وإنما تجذبهم الخطب والمحاضرات ذات العناوين التي فيها لفات وحركات كما يقولون، والتي هي أقرب إلى الألغاز منها إلى العناوين، وصار يقاس فضل الخطيب والمحاضر والخطبة والمحاضرة بهذا المقياس، فانساق

كثير من الدعاة إلى ذلك، وركبوا تلك الموجة، وصاروا يتحاشون المواضيع والعناوين المفيدة المباشرة في مسائل التوحيد والتفسير والحديث والفقه التي يحتاج إليها الناس كثيرالتصحيح اعتقادهم وعملهم، وصاروا يتنافسون في الإغراب في اختيار عناوين المحاضرات ومواضيعها؛ ليقدموا ما يهواه الناس لا ما يفيدهم، ويكثر في تلك المحاضرات التكلف والعناية بالتأثير العاطفي وشحن النفوس بالعاطفة، وذكر القصص من هنا وهناك مما يجعل المحاضرة أشبه بسوالف المجالس كما يقال بالعامية، ولا تقدم المحاضرة لمستمعها علما نافعا يجعل استقامته حقيقية لا عاطفية مؤقتة، ولا تنفعه المحاضرة كثيرا في اعتقاده، أو عمله.

ووصل الأمر إلى إقامة دورات في تعليم الشباب برامج مأخوذة من الكفار لتنظيم حياتهم وضبط أوقاتهم وتحقيق أحلامهم، وصار يتنافس على تلك الدورات، ويدفع فيها الأموال وفي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلوم السلف الصالح، وسير الأئمة ما يغنينا عن ذلك كله؛ فلم يحفظ أحد وقته، ولم ينظم أحد حياته كما فعل سلفنا الصالح وأئمتنا الكرام؛ لكن حب الغريب والجديد هو الذي يحمل الناس على ركوب ذلك.

وقد حذر السلف الصالح من الإغراب في علوم الشريعة والإتيان بمعانٍ غير معروفة عندأهل العلم، وبينوا أن هذا من الآفات، وحثوا على اجتنابها.وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن شأن النفوس أنها موكلة بكل غريب تستحسنه، وتؤثره، وتنافس فيه حتى إذا كثر ورخص وناله المثري والمقل زهدت فيه مع كونه أنفع لها وخيرا لها.قال:

ولمكان الاستغراب وقبول النفس لكل غريب لهج الناس بالأخبار الغريبة وعجائب المخلوقات والألغاز والأحاجي والصور الغريبة، وإن كانت المألوفة أعجب منه وأحسن وأتم خلقة.

(الصواعق المرسلة لابن القيم بتحقيق علي آل دخيل الله 2/ 449)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير