تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تأمَّلوا - رحمكم الله تعالى - ضعف الإنسان أمام الذكر والشهرة، يبذل في سبيلها نفسَه، وهي أغلى ما يملك بعد إيمانه، ويقضي عمره كله يجمع ماله، ثم يبذله في سبيل الذكر، والعالِم يقضي عمره كله في تحصيل العلم، وتَحمُّل مشقته، ومكابدة السهر وقِلَّة النوم بسببه، ثم لا يريد بذلك إلا الذكرَ والشهرة.

إن غالب ما يطلبه العبد في الدنيا، وما يعمله من أعمال، فإن للذكر فيه حظًّا وافرًا، وللمدح فيه نصيبًا كبيرًا، إلا ما شاء الله - تعالى - ذلك أن الناس يحبون المدح والثناء بما فعلوا وما لم يفعلوا، وهذا أساس من أسس فساد البشر، وعلوِّهم في الأرض، وبغيهم على غيرهم، وضعف العبودية في قلوبهم، وبيع كثير منهم لدينهم، وعدم صَدْعِهم بالحق الذي عليهم، وقد روى كَعْبُ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لها من حِرْصِ المَرْءِ على المال والشَّرَفِ لدينه))؛ رواه أحمد، وصححه ابن حبان.

إن مَحبة الذكر والمدح من خصائص الله - تعالى - التي يجب ألاَّ يُنازَعَ فيها؛ فإنه - سبحانه - يحب مِن عبيده أن يذكروه، والعبودية التي يؤدِّيها المؤمن لربه هي مِن ذِكره - سبحانه - ومن أحب الأعمال إليه - عز وجل - ترطيبُ اللسان بذكره – تعالى - والمشتغل بذكر الله - سبحانه - لا يشتغل بذكر نفسه، ولا يسعى في شهرتها، ولا الدعاية لها، أو الإعلام بها، فكان جزاؤه مكافأة الله - تعالى - له بأن يذكره في الملكوت الأعلى؛ {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقال الله – تعالى - في الحديث القدسي: ((أنا عند ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نَفْسِهِ، ذكرته في نَفْسِي، وإِنْ ذَكَرَنِي في ملأ، ذَكَرْتُهُ في ملأ خَيْرٍ منهم))؛ متفق عليه.

وطالب الشهرة التي يعمل العبد لأجلها، ويبذل دينه في سبيلها - يُعاقَب يوم القيامة عليها بنقيض ما أراد في الدنيا، فيُفضح أمام الناس، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سَمَّعَ، سَمَّعَ الله به، ومن يُرَاءِ، يُرَاءِ الله بِهِ))؛ رواه الشيخان.

قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: "معناه: من عمل عملاً على غير إخلاص، وإنَّما يريد أن يراه الناس ويسمعوه - جُوزِيَ على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويُظهِر ما كان يبطنه".

وربنا - جل في علاه - يحب المدح، وهو أهلُه، والمدح أليق به من غيره؛ بل لا أحد أحق بالمدح، والذكر، والثناء منه - سبحانه وتعالى - عَلِمنا ذلك من أسمائه وصفاته، وأفعاله وآياته، وأخبرنا المبلغ عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه - سبحانه - يحب المدح، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس أَحَدٌ أحب إليه المَدْحُ من الله؛ من أَجْلِ ذلك مَدَحَ نَفْسَهُ))؛ رواه الشيخان.

ولا يقدر على كبح جماح نفسِه الداعيةِ إلى الظهور والشهرة، المُحِبَّةِ للجاه والمنصب، إلا أفذاذُ الرجال، وقلائل الناس، يعبدون الله – تعالى - ويخدمون دينه، ويؤدون الأمانة.

لا يغضبون إن قُدِّم غيرُهم عليهم، ولا يحزنون إن استأثر الناس بالأمر دونهم، فهم يعملون لله - تعالى - ولا يعملون للناس، ويعيشون في سبيله - سبحانه - لا في سبيل غيره، وغايتهم رضا الله - تعالى - والدار الآخرة.

لا ينظرون إلى الدنيا نظر أهلها لها، ولا يتلهفون لهفهم عليها، إنهم ليسوا عبيدًا للجاه والمال، إن أُعطُوا رضُوا، وإن لم يُعطَوا سخطُوا، ولا يهمهم أن يكونوا من سراة الناس أو من عامَّتهم، أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنان فَرَسِهِ في سَبِيلِ الله، أَشْعَث رَأْسُهُ، مُغْبَرَّة قَدَمَاهُ، إن كان في الحِرَاسَةِ كان في الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ، إن اسْتَأْذَنَ لم يُؤْذَنْ له، وَإِنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ))؛ رواه البخاري.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير