كان من أولئك الرجال الأفذاذ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يستخفي من الدنيا، وينقطع عن أهلها، ولا تطرف عينه من أجلها، ولا يتحرك قلبه على فوات شيء من مالها وجاهها، كان - رضي الله عنه - لما ثارت الفتنة في إبلِهِ، فجاءَهُ ابنُهُ عُمَرُ، فقال له: أَنَزَلْتَ في إبلك وغنمك وَتَرَكْتَ الناس يَتَنَازَعُونَ المُلْكَ بينهم؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ، فقال: اسكت، سمعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ الله يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ))؛ رواه مسلم.
فحري بمن عبَّد نفسه لله - تعالى - أن يعبِّد قلبه له – سبحانه - وأن يوطنه على الإخلاص له - عز وجل - وأداء ما عليه من الحقوق والأمانات، ولو استأثر الناس بالأمر دونه، وقدَّموا مَن هو أقل منه عليه، يعمل ويخلص، سواء عرف الناس فضله وقدره، أم لم يعرفوه، وسواء وضعوه في المكان اللاَّئق به، أم لم يضعوه؛ فإن الله - تعالى - يعلم قدره، وفضله، وإخلاصه، وجزاء الله – تعالى - أعظم من جزاء البشر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا، كثيرًا، مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّمَ وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعملوا لآخرتكم، ولا تغرنكم دنياكم؛ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77].
أيُّها المسلمون:
محبةُ الجاه، والسيادة، والذكرِ - محفورةٌ في قلوب البشر، وبها يتنافسون فيما بينهم، ولكن المؤمن يجاهد نفسه في ردها عن غيِّها، ويجتهد في الإخلاص لله - تعالى - في كل أحواله، لا يحسد أحدًا على منصب أو مال حباه الله - تعالى - إياه وهو يرى نفسه أولى به منه؛ فإن ذلك رزق الله - تعالى - يهبه مَن يشاء مِن عباده، ويمنعه من شاء، ورزق الله - تعالى - لا يخضع لمقاييس البشر وحساباتهم، فقد يرفع الوضيع، ويضع الرفيع، وقد قال الله - تعالى -: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزُّخرف: 32]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الله هو المُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الرَّازِقُ))؛ رواه أبو داود.
ومن أُعطي غنى القلب، والرضا عن الله – تعالى - في كل شيء، فقد نال أعظم شيء يناله بشرٌ، وإنه لَينعمُ بالراحة والسعادة، ولو كان أفقرَ الناس وأحقرهم، وليس في الدنيا نعيمٌ يشبه نعيم الآخرة إلا نعيمَ الإيمان، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - والرضا عن الله - تعالى - من تمام الإيمان.
ومن أعطاه الله - تعالى - ولاية صغيرة أو كبيرة، فلا يغتر بذلك، ولا يظن أنه دليل على رضا الله - تعالى - عنه؛ فإنه قد ابتُلي بالولاية ابتلاء عظيمًا، وفُتن بها فتنة كبيرة، ولا سيما في زمن قد ضُيِّعت فيه كثير من الأمانات، وعلى حجم ولايته يكون حسابه يوم القيامة، فليتَّقِ الله – تعالى - وليؤدِّ ما حُمِّل من أمانة، وليكن للناس خادمًا، يتلمس حاجاتِهم، ويقضي شؤونَهم، ويقيم العدلَ فيهم، ويرفع الظلمَ عنهم، ولا يجعل ولايتَه سبيلاً لنيل شهواته وعلوِّه على الناس؛ فإن الولاية تكليف قبل أن تكون تشريفًا؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ على الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يومَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ))؛ رواه البخاري.
قال العلماء: " ((نِعمت المرضعة))؛ أي: في الدنيا، ((وبئست الفاطمة))؛ أي: بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يُفطَم قبل أن يستغني، فيكون في ذلك هلاكه".
¥