تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلا بد لمريد النجاة من صرف نفسه إلى ما يريده الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، وبذله الوسع في قهر الشهوة والهوى ومخالفة داعيهما الذي يحول بين النفس وبين أداء الطاعة على وجهها (4)؛ إذ (اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات) (5).

وأصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير ما تهوى. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات وامتناع عن الطاعات، ومجاهدتها تقع بحسب ذلك (6). وأقوى مُعين (على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقي إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نُهِي عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام المجاهدة أن يكون متيقظاً لنفسه في جميع أحواله؛ فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات، وبالله التوفيق) (7)

والمجاهدة أمر رفيع القدر، عالي المنزلة يحتاج إلى صبر ورباطة جأش، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» (8). يقول ابن عبد البر: (مجاهدة النفس في صرفها عن هواها أشد محاولة وأصعب مراماً وأفضل من مجاهدة العدو) (9)، ويقول ابن بطال: (جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى .... } [النازعات: 40] الآيات) (10).

وأخبار القوم في مداواة نفوسهم ومعالجة أدوائها أكثر من أن تروى. يقول الثوري: (ما عالجت شيئاًً أشد عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة عليَّ) (11)، وقال: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتغلب عليَّ) (12). ويقول يونس بن عبيد: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من الورع) (12)، ويقول ابن أبي زكريا: (عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قلَّ أن أقدر منه على ما أريد) (14)، ويقول أبو يزيد: (عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي، وما شيء أهون عليَّ منها) (15)، ومرة قال: (عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد عليَّ من العلم ومتابعته) (16).

فالنفس عدو منازع يجب على المرء مجاهدتها، وحين يفلح المرء في ذلك فإن إتيان الطاعات يتحول إلى نعيم ولذة، وعندها لا يجد المرء في القيام بها كلفة ومشقة، كما قال ثابت البناني: (كابدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة) (17)، وكما قال بعض العُبَّاد: (عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة) (18)، فالأُنس واللذة يحصلان من المداومة على المكابدة مدة طويلة.

يقول ابن الجوزي في بيان جميل: (أعجب الأشياء مجاهدة النفس؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة؛ فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها، وأثَّر ظلمهم لها في تعبداتهم؛ فمنهم من أساء غذاءها، فأثر ذلك في ضعف بدنها عن إقامة واجبها، ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة. وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول؛ فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده؛ فإنه لا ينبسط إليه الغلام؛ فإن انبسط ذكر هيبة المملكة، فكذلك المحقق: يعطيها حظها، ويستوفي منها ما عليها) (1).

ومما يعين على مجاهدة النفس إفهامها عاقبة الانغماس في الشهوات. قال قتادة: (إن الرجل إذا كان كلما هوى شيئاً ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى؛ فقد اتخذ إلهه هواه) (2)، وقال بعض الحكماء: (من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها محصوراً، في سجن هواها مقهوراً مغلولاً، زمامه في يدها، تجره حيث شاءت، فتمنع قلبه من الفوائد) (3)، وقال يحيى بن معاذ: (من أرضى الجوارح في اللَّذَّات فقد غرس لنفسه شجر الندامات) (4)، وقال بشر الحافي: (من أحب الدنيا فليتهيأ للذل) (5).

فيا مجتهداً في تحصيل نعيم المولى! اجعل أعمال الآخرة في حياتك هي الأوْلى وجاهد نفسك وفق الشرع، وإياك أن تهمل قيادتها وتفلت لجامها فتسوقك - إن لم يَجُد المولى - إلى نار تلظى.

? ثالثاً: استحضار ثواب القربات:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير