تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لله قريحة شاعرنا! فلقد عمدتْ قريحته (وربما دون مشورة الشاعر) إلى هذا الفعل دون غيره من مترادفاته، والشعر الشعر هو الذي لا تستطيع أن تستبدل منه لفظة دون أن يتقيد البنيان أو يكاد، فالفعل على وزن تفعّل، وهو وزن صرفي له مدلولاته الغنية، التي تضفي على الكلمة معنى ربما فاق معناها المعجمي، فمن معانيها المطاوعة، وليت شعري! فالشاعر مطاوع للرزايا في إفناء ربيع عمره، وذاك بيأسه، ثُم استسلامه ليأسه، ومن ثَم تسليمه له، كذلك معنى التدرج نلمحه في هذه الصيغة، ولقد كان القضاء على ربيع عمر الشاعر متدرجا جرعة بعد جرعة، ربما كانت الرزايا تتسلى بهدمه ودكَه، لم لا وهي قد اسْتمرأتْ رميَ مهجته وراقها نحره!

وإنّي إذا ما الليلُ (أرخى سدولَه) ... لَكَالزَّوْرَقِ المخروق في لُجّةِ البحر

أنادي بلا صوتٍ شراعا مرقَّعا ... وأحسُو بلا سكرٍ دنانا مِّنَ الخمر

وأهذي كما يهذي مصابٌ بنافضٍ ... خلا أنّني لم أعرفِ النومَ منْ دهر

وقد شَطَّ شطُّ البحر حتّى تحطّمتْ ... مجاديفُ آمالي على صخرة الصبر

صورة بديعة مترامية الأبيات، لا تمثل الشاعر وعاطفته فحسب، وإنما تصور أيضا الجانب الآخر المناهض للشاعر، فجاء التعبير بالزورق (الشاعر) والبحر (الجانب الآخر) مناسبا تماما فنيا وواقعيا، فالبحر رمز للقوة والبطش والجبروت والرأي الغالب، أما الزورق فهو رمز لصغر الحجم والضعف، وإذا كان البحر ليس بحر عاديا وإنما بحرا شاططا هائجا ــ فكذلك الزورق ليس زورقا عاديا وإنما زورقا مخروما بل وشراعه ممزق بال، مما يرجح أن هذا الزورق الذي لا يمتلك شراعا قويا يوجهه ــ سيجنح عن طريقه ليساير الجانب الآخر، وقد جاءت هذه النتيجة جلية في المقطع الأخير من القصيد حيث أراق الشاعر حبره، أما مناسبة هذة الصورة واقعيا ــ فترجع إلى أن الرأي الغالب في زماننا هذا هو تهميش الشعر وإلا فنبذه واطراحه.

وإذا حق لي أن أنسب هذا الشعر لمدرسة فنية، فسأنسبه لمدرسة الديوان، فاليأس وتملكه وتدني قيمة الشعر والبحر والطبيعة شيات تجدها بارزة في دواوين الثالثوث الديواني العقاد والمازني وشكري.

وأطيافُ حلمي فرَّق اليأسُ شملها ... كما بدّدتْ ريحٌ غماما بلا قَطْر

قمة الاختزال والإيجاز في عبارة (بلا قطر)، فأحلام الشاعر (الغمام) لم يتحقق منها حلم واحد، لذلك عبر الشاعر بقوله (بلا قطر)، ولقد اختصرتُ التعليق على هذه النكتة تنبيها بالاختصار والإيجاز على الاختصار والإيجاز، وحتى لا أحجم مخيلة القارئ فهي لفظة تشي بدلالات كثيرة وعميقة.

كذلك اختيار لفظة الريح له تجلياته العظيمة في نفس القارئ، لاسيما ولفظة الريح غالبا ما تأتي بشر عكس الرياح التي غالبا ما تأتي بخير، فضلا عن أن الريح قوية مسيطرة مبيدة لا محالة، فاستخدام الريح ترشيح لنتيجة حتمية وهي: تبديد الغمام والقضاء عليه، كذلك هي كناية عن أن الشر يكمن في هذا الجانب وإن انتصر، والتعبير بالغمام كناية أيضا عن كمون الخير في رأي الشاعر وإن انهزم، فالغمام وإن بدده الريح إلا أنه سرعان ما يتجمع مرة أخرى في بيئة مناسبة ليؤتي أكله.

والقصيدة تحتاج إلى قراءة وقراءة، لاسيما مقطع الحبر والشاعر،

والوقت لا يتسع،

فحياك الله خالقها ومبدعها!

بقيت بعض النظرات الشخصية التي لا تعبر عن الحقيقة، منها:

أنادي بلا صوتٍ شراعا مرقَّعا ... وأحسُو بلا سكرٍ دنانا مِّنَ الخمر

إذا كنت في بحر يجور بك طورا ولا يهتدي فليس الحين حين خمر، لاسيما وهي تبعث المرء على الهدوء والتأمل والنسيان، فمحاولة النسيان لا تكون في خضم المعركة ولما تحسم، وإنما تكون بعد الهزيمة.

كذلك مناداة الشراع بما توحي من دلالات طلب النجاة ــ تتعارض مع احتساء دنان من الخمر طلبا للسكر.

وإنّي إذا ما الليلُ (أرخى سدولَه) ... لَكَالزَّوْرَقِ المخروق في لُجّةِ البحر

إن كان هناك فريق يجعل استخدام الكاف الاسمية اختيارا وليس ضرورة كما رأى سيبويه وغيره ــ فإن استخدام هذه الكاف مع حرف اللام خاصة، فيه إعاقة موسيقية وإن كانت يسيرة، والمشهور استخدامها مع من وعن.

زجاج المرايا قابعٌ بين أضلعي ... يغذِّي عروقي منْ ينابيعَ كالجمر

لم أفهم هذا البيت بله علاقته بما قبله وما بعده.

وأطعَمْتُهُ قلبي وأَسْقَيْتُهُ دمي ... وأرسلتُه شمساً أضاءت مع الفجر

بيت استقيتَ منه عنوان القصيد وهو دون إخوانه صياغة ومعنى، فهذا الكلام وإن استقام على الوزن إلا أنه يبعد عن روح الشعر ولغته، لاسيما والشمس أوهى ما تكون عند الفجر، وأقل نور يضيء بالليل والفجر.

تعاطي قريض الشعر جمرٌ ألوكه ... كما لاك طيرٌ رزق أفراخه الغُبْرِ

صورة وقفت على عرصاتها مليا استنطقها؛ فعيت سؤالا ولم تجب، ولعل شاعر يزيدنا وضوحا عن العلاقة بين هذا اللوك وهذا اللوك، لاسيما الجمر وألم لوكه، ولا أنكر جمال زخرف هذه الصورة، ولكنها كالقشرة إن لم نقف على العلاقة ووجه الشبه.

والسلام!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير