بيان وجاهة كلمة ابن وهب الشهيرة "الحديث مضلة إلا لفقيه"، والتي ورد مثلها عن ابن راهويه وغيرهما. وهذه القولة تفيد أن الحديث وإن صح سنده، لا يصلح للعمل به إلا إذا ثبتت صلاحيته لذلك. وتلك طريق وعرة لا يقوى على سلوكها إلا من تجمعت لديه أدوات الاستنباط وبلغ درجة الاجتهاد، وأفضل من تحصل له ذلك الأئمة المتبعون أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل. فإنه من لم يرق إلى درجتهم أو بلغ مرتبهم كان عليه اتباع طريقتهم وسلوك مذهبهم. أما مجرد معرفة طرق الحديث والوقوف على علل أسانيد الأخبار، ومعرفة أسامي الرواة وتواريخهم والتمييز بين مقبول الرواية منهم ومردودها ... وغير ذلك من مباحث علوم الرواية لاتنهض وحدها، بل لا دخل لها في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، ما لم يكن صاحبها ممن تفقه وأدرك حكم الأحكام ومقاصد الشريعة إلا ضل وأضل.
ولهذا أوصى الإمام مالك رضي الله عنه ابني أخته أبا بكر وإسماعيل بن أبي أوس فقال لهما: أراكما تحبان هذا الشأن–جمع الحديث وسماعه– وتطلبانه. قالا: نعم. قال: إن أحببتما أن تنتفعان به وينفع الله بكما فأَقِلَّا منه وتَفَقَّهَا. كما ذكره الرامهرمزي في "المحدث الفاصل ".
بيان وجاهة كلمة ابن تيمية أيضا التي مر ذكرها عن أصول المذهب: "من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد".
فلقد تبين من خلال ما مر في قسمي الدراسة والتطبيق أن أدلته الكبرى وترتيب بعضها على بعض لها ما يؤيدها من الكتاب والسنة والمنطق السليم.
فلا معنى لتلك الوثبة التي وثبها بعض الظاهرية والحنابلة وبعض غلاة الشافعية، لتهوين وتوهين أصوله، خاصة مذهبه في شروط قبول الخبر.
المنهج المتبع للإنجاز
وعليه فسأعمل على جمع المادة العلمية المقررة باستجماع الأحاديث الصحيحة التي ثبت أن السادة المالكية قالوا في اختياراتهم الفقهية بخلافها، ثم أبوبها تحت أبوابها الفقهية. أبين دلالاتها كما قرره العلماء غيرهم أو منهم أحيانا، وبعد ذلك أستعرض قول المالكية ورأيهم المخالف للخبر الوارد، وأتبع ذلك بحججهم وأدلتهم من خلال أصولهم النقلية وطرقهم العقلية. ولا أدع مناقشة تلك الأقوال ونقد تلك الأدلة وتبين الراجح منها من المرجوح والقوي من الضعيف والشاذ من المشهور، لأخلص بعد كل ذلك إلى خاتمة كل مسألة ألخص فيها رأيي في القضية. وسأتبع الأحاديث الصحيحة التي وقع العمل على خلافها واحدا واحدا من أول أبواب فقه العبادات إلى آخر أبواب الأحكام الفقهية، طلبا للاستقصاء والتجميع.
المنهج المتبع للعرض
وهكذا فإني اخترت في عملي هذا أن يكون مقيدا بقيود وضوابط معينة، وهي كالتالي:
أولا: أنني لن أورد إلا حديثا متفقا على صحته، وليس من شرط ذلك أن لا يكون مخرجا إلا في الصحيحين، بل قد يتعدى إلى غيرهما من السنن والمسانيد والمعاجم والموطآت، إذ ليس كل صحيح في الصحيحين.
فإن كان الحديث فيهما استغنيت عن ذكر الحكم عليه، وإن كان في غيرهما بينت وجه الصحة في ذلك بيانا مختصرا معتمدا في ذلك أقوال أهل الشأن إلا حديثا تضعيفه غير مقبول، فإني أجيب عنه بناءً على قواعد أهل الصناعة واعتمادا على أحكامهم أيضا. وإنما اشترطت هذا الشرط لعدم إلزام المالكية بالعمل بحديث لا يصح. لأن العبرة بالثابت اتفاقا وحتى المختلف في صحته لا يلزم كما هو معلوم معمول به عند كل الأئمة وفي كل المذاهب، وحتى عند الظاهرية وأصحاب الحديث أكثر المنكرين وأشدهم على الفقهاء.
ثانيا: أنني لن أورد حديثا لم يعمل بمقتضاه المالكية لكونه معارضا عندهم بغيره من الأحاديث، فإن هذا لا يعتبر ردا ولا مخالفة وإنما هو جمع بين المتعارضين أو ترجيح أحدهما أو إلغاء واحد منهما. فهذا مما تتخالف فيه أنظار المجتهدين وطرقهم، وكذا سعة استيعابهم واستقرائهم.
ثالثا: لن أذكر حديثا لم يأخذ به المالكية بناء على غير المشهور عندهم أو الراجح، لأنهما أو أحدهما هو المعتمد في الفتوى والأحكام في الفقه على اختلاف بينهم في تعريفهما وترتيبهما من حيث القوة والتقديم. ولست أذكر على هذا حديثا خالفه قول ضعيف أو شاذ لحرمة العمل بهما دون ضرورة.
خطة البحث
فجاء البحث في مقدمة تمهيدية وقسمين ثم خاتمة.
أما المقدمة التمهيدية، فهي فتشتمل على أسباب اختيار الموضوع، ثم منهجية البحث ثم ذكرت خطته.
¥