تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(15) مراعاة الجانب النفسي في الخطاب القرآني، كالترقيق في مخاطبة لقمان لابنه وهو ينصحه بقوله: (يَبُنَيَّ) التي تُشعر بالحنان البالغ، وروح التحبُّب، التي أنبأ عنها هذا التصغير للفظة (ابن)، توخِّيًا للتأثير في هذا المتلقِّي الحبيب. وكذلك (يَأَبَتِ) في خطاب إبراهيم لأبيه، وهو يدعوه إلى التوحيد ونبذ الشِّرْك، وقول هارون لأخيه موسى ? حين عبد بنو إسرائيل العِجْل في غياب موسى: (يَبْنَؤُمَّ) دفعًا لغضبه عليه، ولم يقل له: (يا ابن أبي) أو (يا ابن والدي) مثلاً؛ وذلك لما في ذِكْر الأمّ هنا من أثر في نفس المتلقِّي، وهو موسى، منبعث من رِقّتها وحنانها على أولادها بكثرة. وهذا ونظائره من رائع ما عبّر به القرآن، مراعيًا الجانب النفسي فيه.

(16) ملاحظة النسق التعبيري في القرآن، ومحاولة فهمه وتحليله، كتقديم لفظ على آخر، كتقديم اليمين على الشمال في قوله ?: ? وَأَصْحَبُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَبُ الْيَمِينِ ?، ثم قوله بعد آيات ?وَأَصْحَبُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَبُ الشِّمَالِ?؟ [الواقعة: 27، 41]؛ إذ (أصحاب اليمين) هم أهل الجنّة والنّعيم، في حين أنّ (أصحاب الشِّمال) هم أهل النّار والجحيم. وقد سمّى التعبير القرآني الفريق الأوّل: (أَصْحَبُ الميْمَنَةِ)، وسمّى الفريق الثاني: (أَصْحَبُ المشْئَمَةِ). وهذا مبنيّ على التفاؤل والتشاؤم في عادات العرب؛ إذ كانوا يتفاءلون باليمين، ويتشاءمون بالشمال. وبقي هذا في العُرْف الاجتماعي الذي تجلّى كذلك في التعبير القرآني، سائدًا في حياة المسلمين. فكانوا يتيامنون في كل عمل، كالأكل باليمين، وتناول الشيء وغير ذلك. وقد أكد ذلك الحديث الشريف، إذ كان ? يحثّ على التيامن، كالأكل باليمين، والتختُّم باليمين، والصبّ عند الاغتسال باليمين (6).

(17) بين الفنّ التعبيري بظاهرة (التشخيص الفني) " Personification" التي تضفي على الشيء المتحدَّث عنه (صفة الإنسانية)، وهي البشرية، كتشخيص عدد من عناصر الطبيعة (7) (الصامتة)، مثل الشمس والقمر والكواكب، في رؤيا نبيّ الله يوسف ?؛ إذ رآها في منامه ساجدة له [يوسف: 4]. ومنه تشخيص الطبيعة (الحية)، كتشخيص النملة في خطابها للنمل الذي معها، بقوله تعالى: ?قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَكِنَكُمْ? [النمل: 18] فقالت بصيغة جمع العقلاء (ادخلوا)، ولم تقل في هذا الخطاب التشخيصي ما لا يدلّ على ذلك. وقد نبّه على هذه الظاهرة عدد من كبار قدماء اللغويين، كأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت215هـ)، في كتابه "مجاز القرآن" (8)، ونبّه عليه كذلك عبد القاهر الجرجاني (9) (ت 474هـ) واصفًا إياه بأنه "ضرب من المجاز كثير في القرآن". ونبّه عليه بعدهما جار الله الزمخشري (10) (ت 537هـ)، مجلّيًا ظاهرة التشخيص في آية السجود بقوله: " ... فلِمَ أُجرِيَتْ مجرى العقلاء في (رَأَيْتُهُمْ لِي سَجِدِينَ)؟ وأجاب عن ذلك بقوله: "لَمّا وصفوه بما هو خاصّ بالعقلاء وهو السجود، أجرى عليه حُكمَهُ، كأنها عاقلة". ثم وصف الزمخشري هذا اللون من التعبير بأنه "كثير شائع" في كلام العرب.

(18) بيان الفنّ التعبيري بظاهرة (التجسيم الفنّي)، سواء أكان تجسيمًا للحسِّيات -أي ما يدرك بإحدى الحواسّ- كالليل والنهار والصبح، أم كان تجسيمًا للمعنويات، عقلية كانت كالحق والباطل، أم نفسية، كالرُّعْب والخوف. فمن الأول قوله ?:? يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجَ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ? [فاطر: 13]، أي: يُدخل أحدَهما في الآخر، فيكون بهذا وذاك نهارًا تارة وليلاً تارة أخرى. وهذا ضرب مما نسمِّيه (تجسيم الزمان)، وقد أشرفنا قبل سنوات على رسالة ماجستير فيه.

ومن الثاني وهو المتعلق بتجسيم المعنوي، قوله تعالى: ? بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ? [الأنبياء: 18]، فجعل الحق -وهو معنويّ- جسمًا ثقيلاً مقذوفًا على الباطل، الذي صوّره التعبير القرآني كأنه جسم أيضًا. وهذا من رائع تصوير القرآن في تجسيم المعنويات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير