(19) العناية (بالتحليل الصوتي) للتعبير القرآني المراد دراسته وتحليله، سواء تعلّق بالصوت المفرد (الفُونيم) Phoneme، كالباء، والميم، والنون، والهاء، أم تعلّق بـ (المقطع) المؤلَّف من صوتين أو ثلاثة، وسواء تعلّق بالصوت المفرد، أم بالمركّب، أم بالتعبير، مع ربط الصور الصوتية بالمعاني المختلفة في التعابير القرآنية، مع ضرورة التنبيه على ظاهرة الاستبدال الصوتي بين الوحدات الصوتية الصغيرة، وهي (الفونيمات)، وأثر ذلك في تحقيق الفروق الدلالية بين كثير من الألفاظ القرآنية المتقاربة الأصوات، ما بين سياق وآخر، كما في: هَزَّ وأَزَّ، وكتَمَ وكَظَمَ، وغَشَّى وغَطَّى.
(20) العناية (بالقراءات القرآنية) التي قُرِئ بها النص الكريم، سواء أكانت مشهورة، قرأ بها السبعة أو العشرة، أم غير مشهورة، وهي التي قرأ بها غيرهم، مع كشف أوجهها اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية، وذلك لتعلّق معنى النص بها، واختلاف بين قراءة وأخرى، أو لكشفها لظواهر اللغة المختلفة، كالهمز في (كُفُؤًا) وتسهيله في (كُفُوًا)، وكالإطباق الصوتي في صاد لفظة (الصِّراط)، وعدمه في سين (السِّراط)، وكالمدّ في (مَالِكِ) والقَصْر في (مَلِكِ)، إذ معنى (مَلِكِ) أبلغ من معنى (مَالِك)، من حيث إنّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ، وليس كلُّ مالِكٍ مَلِكًا.
(21) العناية بعلوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع؛ إذ يتعلّق بالعلم الأول، وهو (علم المعاني) ظواهر تعبيرية كثيرة، كالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والإيجاز بنوعيه: إيجاز لحذف وإيجاز لقِصَر، فمن الأول حذف المبتدأ من الجملة الاسمية، كما في قوله ?:?كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُه ? [هود:1]، ومن الثاني قوله تعالى: ? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَأُولِي الأَلْبَابِ ? [البقرة: 179].
ومن (علم البيان) ما يتعلّق بالحقيقة والمجاز. فمن المجاز: التشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز المرسل، وما إليها. وتنبغي العناية بفنّ (الالتفات) كذلك، إذ هو فنّ رفيع في تعبير القرآن، وثيق الارتباط بالمعنى، وذلك بالانتقال من ضمير إلى آخر في السياق، كانتقاله من الغَيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ?مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ? [آل عمران: 179]، فالتفت بقوله (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الغَيبة في الحديث عن المؤمنين إلى الخطاب.
ومن موضوعات (علم البديع)، الطِباق، والجِناس، والتَّوْرِية، والتقابل، وما إليها. فهذه كلها ينبغي على المحلل للنص القرآنيّ أن يعطيَها حقَّها من الدرس والفهم والتحليل والتعليل، لمعرفة معاني القرآن المجيد معرفة شاملة وافية، لا تقف عند جوانب دون أخرى، وإنما تتناول الجواب كلها (11).
(22) ضرورة بيان العلاقات الدلالية بين الآيات الكريمة، والكشف عن الوشائج التي تربط الجمل والألفاظ والتراكيب، وما يترتب على ذلك من ترابط وتلاؤم معنويّ، بحيث يُرَدّ المتأخر على المتقدّم عند التحليل ويُربَط به معنويًّا، أو يُشار إلى علاقة المتقدِّم بالمتأخِّر، أو تأثيره فيه لفظًا ودلالة، من خلال التأمّل في السياق، وهو مجرى الكلام، ليكشف المحلل بذلك عن حقيقة أنّ القرآن العظيم بناء متماسك لا نظير له، بل هو نسيج وحده. ولتحقيق ذلك، ينبغي على المحلل للنص الكريم أن يُحسِن التفهم؛ إذ إنّ الكتاب المجيد كلّما أكثر فيه الدارس التأمّل والسَّبْر، منح دارسه من المعاني والدلالات ما لا يحققه القارئ المتعجِّل، الذي لا يُحسِن إلاّ القراءة، دون عمق الفهم والتحليل.
ويذكر أهل العلم أنّ مَن فسَّر القرآن، وهو غير محيط بهذه العلوم التي تقدّم الحديث عنها وبيانها، في ما أوردناه منها، انطبق عليه (التفسير بالرأي) المنهي عنه، وإذا فسّره وهو محيط بها، لم يكن تفسيره من هذا النوع المنهيّ عنه في الشرع، بل هو من النوع المباح.
والله سبحانه الموفِّق للصواب، والهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش:
* كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، العراق.
(1) ينظر: منهج الراغب في كتابه مفردات ألفاظ القرآن، رافع عبدالله مالو، رسالة ماجستير، جامعة الموصل، 1989م.
(2) ينظر: كتاب اللهجات العربية، للدكتور إبراهيم أنيس، مطبعة الرسالة، القاهرة؛ وكتابنا فقه اللغة العربية، ص210، دار الكتب، جامعة الموصل، 1987م.
(3) ينظر: التقابل الدلالي في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، منال صلاح الدين الصفار، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1993م، بإشرافنا.
(4) بحث ألقيته في "ندوة الدراسات الإسلامية للجامعات العربية" في جامعة الخرطوم في السودان، شباط 1978م.
(5) نشر في مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، م2، ع 1، سنة 2000م.
(6) ينظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، أ. ي.ونسنك ورفيقيه، مطبعة بريل، ليدن 1969م.
(7) ينظر في هذا بحثنا: التشخيص الفني لعناصر الطبيعة في القرآن الكريم، مجلة منار الإسلام، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، العدد 9، سنة 2001م.
(8) ص 10، من الجزء الأول.
(9) أسرار البلاغة، ص431، تحقيق أحمد مصطفى المراغي، مطبعة الاستقامة، القاهرة.
(10) ينظر الكشاف لجار الله الزمخشري، 2/ 123، مطبعة القاهرة، 1948م.
(11) ينظر في بيان هذه الفنون البلاغية كلها: كتابنا منهج الشيخ أبي جعفر الطوسي في تفسير القرآن: دراسة لغوية نحوية بلاغية، ص247 وما بعدها.
المصدر http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=4818
¥