ولما توفي أبوها شمس الدين لَلْمِش: تولَّى بعده ابنه الأكبر: ركن الدين فيروز شاه، فأساء وتعدَّى وظلم! ولم يَنْهَج نهج أبيه في العدل بين الناس وإنصاف الضعفاء! بل كان سيئ الأخلاق، لئيم الطباع، ضعيف الاستقلال بالملك! ولما أحسَّ أن هناك مؤامرة تقوم ضده بزعامة أخيه عز الدين! قام من فوره وحشد الحشود، ثم قبض على أخيه ومن معه، ثم أعمل فيهم سيفه! وشفى منهم غيظه! وذبح أخاه بيده! وكان هو الذي تولَّى كِبْر مقتله! فكرهه الناس وبغضوه، وتمنُّوا لو أزالوا دولته وقتلوه! لكنهم لم يكونوا يجرءون على ذلك! لما يخشونه من بطش ذلك السلطان الغاشم!
وهنا: قامت رضية الدين في وجه أخيها! وظلتْ تعظه وتحذَّرُه من عاقبة تلك السياسة الدَّمَويَّة التي أرْدَتْ بقتل أخيها! لكن السلطان ركن الدين: لم يعبأ بكلام أخته! ولا كاد يُنْصتْ لها أصلا! بل كاد أن يبطش بها هي الأخرى! حتى يتمَّ له أمرُه، ويسْتَتِبَّ مُلْكُه وحكمُه!
فََخَشيتْ رضية الدين على نفسها! وعَمَدتْ إلى مفاجأة أخيها الظالم بتقاليد تلك العدالة التي كان أرساها أبوهما في حياته؟ فمكثتْ حتى حان وقت صلاة الجمعة في أحد الأيام, وقد أجمعتِ العزم على أن تُذيق أخاها القاتل مِنْ تلك الكأس التي شرب منها أخوهما المقتول! فصعدتْ إلى سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم في مدينة دهلي [دلهي]، وهي تَرْتدي ثيابًا ملونة؛ لكي يعرف الناس أنهامظلومة مقهورة, واستوقفتِ الناس وخاطبتْهم من مكانها أعلى السطح وهي ترفع عقيرتها وتقول: «إن أخي قتلأخاه, وهو يريد قتلي معه!!» وجعلتْ تُذكِّر الناس بأيام أبيها, ومآثره, وما فعله من أجلرعاياه من الإحسان إليهم، والرفق بهم، وكأنها تنادي: وا أبَتَاه! وا أبتاه! أخي قتل أخاه! فأين أنت يا أبتاه؟!
فحرَّكتْ كلماتُ الأميرة المظلومة الخائفة: جماهيرَ المصلين، وأقْلَقتْ ما بين جنوبهم، وكأنها طعنتْ برماح صراخها في أكبادهم! فثاروا من فورهم، وتوجَّهوا إلى السلطان ركن الدين وقبضوا عليه وهو يرتجف خوفًا! ثم ساقوه إلى أخته التي كانت شراراتُ الغضب تتطاير من تحت جفون عينيها! فنادت فيهم قائلة: «: القاتل يُقْتَل»! فامتثل الجميع لأمرها، وقاموا بقتل السلطان قصاصًا كما قتل أخاه، ثم نظر الناس في من يتولَّى زِمام المملكة بعد ذلك السلطان المقتول؟ فعمدوا إلى أخيه الأصغر «ناصر الدين» فوجدوه طفلا صغيرا لا يحسن تدبير أمر نفسه! فكيف بأمور المسلمين؟ ثم اتفق الرؤساء منهم على مبايعة رضية الدين سلطانة عليهم!
ونسوا أن رسولهم r قد قال فيما أخرجه البخاري في «صحيحه» عنه: «لن يُفلِح قومٌ وَلَّوْا أمْرَهُم امرأة»! ولكن: كان قضاء الله أمرًا مقدورًا.
فارتفعتْ رضيةُ الدين على عرش البلاد في عام: [634 / هجريا / الموافق: 1236/ميلاديا].
وكان يوم تتويجها سلطانة: يوما مشهودا بين الناس! إذ لم يعرف التاريخ الإسلامي: أن امرأة حكمت الهند قبلها!
وظلت تحكم البلاد حتى عام: [637 / هجريا / الموافق:1369/ ميلاديا].
وكانت في أول أمرها: تمشي على سيرة أبيها في نشر العدل بين الناس، ورفع الظلم، وفتوح البلدان، وإرساء قواعد الأمن والسلام في جنبات مملكتها. حتى أثنى عليها بعض المؤرخين بتلك المآثر الشريفة التي أحْيتْ مواتها بعد أبيها العادل: شمس الدين لَلْمِش القائد السلطان المملوكي الشهير.
لكنها: سرعان ما أنساها الحكم أنها لا تزال امرأة! فحدَّثتْها نفسها بعزائم الرجال! ورَاودَها الشيطانُ بالانسلاخ من جِلْدِ أنوثتها والتَحَلِّي بشكيمة الأبطال! حتى تستطيع أن ترْدَعَ كلَّ من يحاول تهديد أنْظمة حكمها؛ ظانًا أن مَلِيْكَته: أنثى ضعيفةَ الركن كأكثر النساء! وحتى يعلم الرائح والغادي: أن السلطانة لا تقل قوة وصلابة عن سائر الملوك من حيث الحزم والبأس بين الرعية.
¥