وإن كانت مثل هذه الأبحاث والكتب المبنية على محرِّكات البحث لا تنطلي على صغار طلبة العلم فضلا عن أهل العلم الراسخين؛ إلا أن هناك قطاعاً لا يُستهان به ممن ينخدعون بالأحجام وكثرة النقول غير المتجانسة، ولا ينكشف لهم عوار تلك التي يسميها أصحابها زوراً بحوثاً وكتباً.
وإذا نظرنا إلى هذه الظاهرة -خاصة مع انتشار أجهزة الحاسب واستخدام الشبكة العنكبوتية- نجد أن لها دوافع، ويترتب عليها مفاسد يجب أن توضع في الحسبان.
فمن دوافع تشييخ محركات البحث:
1 - الكسل: فيستصعب المرء الذهاب إلى مجالس العلم، ويستثقل حضورها والتدرج في السلم العلمي المنطقي، فيلجأ -من باب إرضاء النفس- إلى وسيلة ترضي نفسه ولا تخدش كسله، فيستبدل بمجلس العلم شاشةَ الحاسب، وبالمدارسة والمذاكرة ضغطاتٍ على "الفأرة" فتنسخ من هنا وتلصق هنا، دون فقه، وربما دون قراءة أصلاً.
2 - التربية على الوقوف على الخلاصة: فقد نشأ كثير من شباب اليوم على الملخصات والمذكِّرات وأهم الأسئلة المتوقعة، وصار تحصيل العلوم عند الكثيرين في عصر السرعة شأنه شأن الوجبات السريعة، فلم يتعلموا التأصيل في العلوم، والذي قد يستغرق كثيراً من الوقت والجهد، ولكنه في الحقيقة بَذرٌ له ثمرٌ، بخلاف تعلُّم المسائل بصورة سطحية.
3 - الثقة بالنفس: حيث يرى الواحد من هؤلاء في نفسه القدرة على أخذ العلم مكتوباً دون الرجوع إلى أهل العلم في توضيح العبارات وحل المشكلات.
4 - التكبُّر عن طلب العلم على أيدي المشايخ: فإن الكِبر أحد أكبر عوائق طلب العلم، ومن رواسب الجاهلية المستفحلة أن يتكبر المرء عن الجلوس بين يدي شيخ قد ينهره مرة أو يعنفه أخرى، فيؤثر السلامة -زعم-، ويختار أن يشيِّخ محركات البحث التي لا تُعنِّف ولا تنهر ولا تعاقب، بل هي متى شاء أسكتها، ومتى شاء أعملها.
5 - استعجال الثمر: فكثير ممن أهلكه حبُّ العلوِّ والصدارة يستعجل النتائج، بل يحسب في قرارة نفسه أنه بعد مضي بضع سنوات في طلب العلم سيصبح العالم الجهبذ الذي لا يُشَقُّ له غبار، فيستثقل أن يرقى في سُلَّم الطلب كما هي سنة العلماء، وقد قال المأمون عن أمثال هؤلاء: "يطلب الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: أنا من أهل الحديث"!
ومن النتائج المترتبة على تشييخ محركات البحث:
1 - تصدر صغار الأسنان: الذين لم ترسخ قدمهم في العلم في وجود من هم أكبر منهم سنًّا وأرسخ قدما، وقد قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "إذا ترأس الرجل سريعاً أضر بكثير من العلم، وإذا طلب وطلب بلغ"، وقال عبد السلام برجس -رحمه الله-: "حقُّ الحدث النابغ أن يُنتفعَ به في المدارسة والمذاكرة والمباحثة، أما أن يُصدَّر للفتوى ويُكتب إليه بالأسئلة؛ فلا وألف لا؛ لأن ذلك قتل له وفتنة وتغرير".
2 - ظهور جيل من مدعي العلم عديمي الأدب: لأن الأدب لا يمكن أن يُبحث عنه من خلال محركات البحث، ولا أن يُتعلم من الـ"جوجل" والـ"ياهو"، وإنما يُستقى من أهل العلم، ويُستفاد من أخلاقِهم التي قوَّمها العلم وقوَّمتها الخبرة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم".
قال ابن قتيبة -رحمه الله- تعليقًا على أثر ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحِدته وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، ولا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث، فمع السن: الوقار، والجلالة، والهيبة".
3 - الشعور بالاكتفاء: فإن من آفات الاقتصار في العلوم على محركات البحث أن يشعر المرء بالاكتفاء، فهو كلما أراد أن يقف على مسألة أعمل حاسِبَه وبحث عنها، وكما قال سحنون -رحمه الله-: "يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيظن أن الحق كله فيه".
4 - الإعجاب: الذي هو نتيجة متوقعة للشعور بالاكتفاء، وقد قال علي بن ثابت -رحمه الله-: "العلم آفته: الإعجاب والغضب، والمال آفته: التبذير والنهب".
¥