يدخل "التضاد" في صميم هذه التغيرات التي تحدث في الأفراد على صعيد اللاشعور. فإن رؤية الشيء أو الحركة، قد تستدعي في اللحظة ذاتها ضده أو ضدَّها. وهذا ما يفسره علم النفس في دراسته تداعي الأفكار، فقد جعل لذلك قانوناً بثلاثة بنود:
- التداعي بالاقتران "اقتران شيء بشيء".
- التداعي بالتشابه "فلان يشبه فلاناً".
- التداعي بالتضاد "أبيض أسود".
ولكن التضاد الهام جداً في اللغة العربية هو ذاك الذي يجعل المعنيين المختلفين- وأحياناً: عدة معانٍ -كامنين في قلب الكلمة الواحدة "فالجَوْن" تعني الأبيض والأسود. و "القَنيص" للصائد والمصيد. و "الكري" للمستأجِر والمستأجَر. و"الطرب" للفرح والحزن. وهذا ما يؤكد أن العقل العربي هو في طبيعته غير سكوني. بل هو جدلي Dialectical.
إن الدكتور عبد الكريم اليافي (11) في دراسة فريدة له عن أبي تمام يستخرج من بعض شعره من الأضداد ما يحمله على القول إن التضاد هو أساس التفكير عنده.
ويرى أيضاً أن أبا تمام "يرى من خلال التضاد أن الحركة هي الأصل في حُسْن الطبيعة وجمال الأرض" وهو يذهب أبعد من ذلك فيقول:
" حين نطالع شعر أبي تمام نجد أنه قد سبق هيغل وأمثاله من الفلاسفة بعصور طويلة فشق طريق الديالكتيك المستند إلى صراع الأضداد، فهو في الحقيقة أبو الجدل الحديث".
ومن الأمثلة الموفقة التي يقدمها الدكتور اليافي في هذا المجال قول أبي تمام:
من سجايا الطلول ألا تجيبا
فصواب من مقلتي أن تصوبا
فاسألنها واجعل بكاك جواباً
تجد الدمع سائلاً ومجيبا
وإذا كانت "الأضداد" توضح حركة الذهن العربي وجدليته، من خلال المفردات التي هي مادة التفكير، فإنها تؤكد من جانب آخر، في الوقت نفسه، مرونة هذا الذهن وقابليته للنقاش وسعة الرؤية اللغوية.
من أساليب التضاد
هنالك أكثر من أسلوب للنفي حسب حركة الذهن، فيمكن أن نقول مثلاً:
"طويل- وغير طويل أو- لا طويل" كذلك القول "قصير- غير قصير أو- لا قصير".
ومثل ذلك قولنا: "أسود- لا أسود أو- غير أسود" كذلك القول: "أبيض- غير أبيض أو- لا أبيض".
ولكن الطبيعي أن نقول "طويل وقصير" و "أسود وأبيض" مثلما نقول "حركة وسكون" و "ظلام وضياء" وهناك معجمات كثيرة اهتمت بهذه الأضداد في بعض فصولها، هي معجمات المعاني مثل "فقه اللغة" للثعالبي و "تهذيب الألفاظ" لابن السكّيت و "الألفاظ الكتابية" (12) للهمذاني. وفيه فصل عنوانه "باب الأضداد" منه "الفرح والغم. اليسار والفقر. المدح والثلب. الدنّو والبعد. الإظهار والكتمان .. إلخ".
.. إلا أن ما يعنينا هنا هو اجتماع المعنيين أو أكثر في لفظ واحد، وهذا ما اهتمت به معجمات الأضداد، وبينها كتاب ابن الأنباري الذي نحن في صدد الحديث عنه.
في تعريف الأضداد
ورد في لسان العرب أن الضد هو كل شيء ضادَّ شيئاً ليغلبه. وورد التعريف نفسه في "تاج العروس" للزبيدي (13) وأضاف: "السواد ضد البياض، والموت ضد الحياة: قال الليث. ويقال: لقي القوم أضدادهم وأندادهم أي: أقرانهم. وقال الأخفش: الند هو الضد والشبه. وقال ابن السكيت: حكى لنا أبو عمرو: الضد مثل الشيء. والضد: خلافه.
وجاء في "المصباح المنير" (14): الضد هو النظير والكفء. والجمع أضداد. والضد خلافه. و (ضادّه) (مضادةً) إذا باينه مخالفة و (المتضادان) اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار.
وأشار الشرتوني في "أقرب الموارد" (15) إلى ما دعاه "لغات الأضداد": اللغات الدالّة على معنيين متضادين كالضد للمثل والمخالف.
[لبحث نصر الدين البحرة تتمة تنشر لاحقاً]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
n الحواشي:
1 - اللغة ومعاجمها في المكتبة العربية. تأليف: د. عبد اللطيف الصوفي- دار طلاس- 1986 - ص 34.
2 - المصدر السابق -ص 35
3 - المصدر السابق - ص 37
4 - المصدر نفسه - ص 38
5 - المصدر نفسه - ص 67
6 - المصدر نفسه- ص 68
7 - ابن الأنباري (271 - 328هـ= 884 - 940م): محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري، من أعلم أهل زمانه في الأدب واللغة، ومن أكثر الناس حفظاً للشعر والأخبار. قيل: كان يحفظ ثلاثمئة ألف شاهد في القرآن. ولد في "الأنبار" على الفرات وتوفي ببغداد. وكان يتردد إلى أولاد الخليفة الراضي بالله يعلمهم. من كتبه (الزاهر) في اللغة و (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات) و (إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل) و (الهاءات) و (عجائب علوم القرآن) و (شرح الألفات) -رسالة نشرت في مجلة المجمع بدمشق. و (خلق الإنسان) و (الأمثال) و (الأضداد) وأجل كتبه -في رأي الزركلي- (غريب الحديث) قيل إنه خمسة وأربعون ألف ورقة. وله (الأمالي) عن "الأعلام" لخير الدين الزركلي -الطبعة الخامسة 1980 دار العلم للملايين -المجلد السادس- ص 334.
8 - الأضداد في اللغة. تأليف: تاج اللغة محمد بن القاسم محمد بن بشار الأنباري النحوي- المطبعة الحسينية المصرية بكفر الطماعين بمصر- أواخر شهر شعبان 1325 هجرية.
9 - دار الحداثة -لبنان- بيروت- الطبعة الثانية 1982
10 - المصدر السابق - ص8.
11 - دراسات فنية في الأدب العربي- تأليف: د. عبد الكريم اليافي- طبعة 1972 - ص 110 وما بعد
12 - الألفاظ الكتابية -تأليف: عبد الرحمن عيسى الهمذاني- مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت 1899 - الطبعة الثامنة- ص 296
13 - تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي- تحقيق الدكتور عبد العزيز مطر- مطبعة حكومة الكويت- 1970 الجزء الثامن- ص 310.
14 - المصباح المنير -تأليف: أحمد محمد بن علي الفيومي المقري- المكتبة العصرية- صيدا- الطبعة الثانية 1997 - ص 186
15 - أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد -تأليف: سعيد الخوري الشرتوني- مطبعة مرسلي اليسوعية ببيروت سنة 1889 ص 679
¥