أحسب أن وجه الرأي عندي في مثل ما يكتب مبدعنا أبو الهذيل لم يتضح عندكم؛ فإني موافقٌ لكم في إعجابكم بهذا النمط وما فيه من اقتدارٍ لغوي يندر وجوده في عصرنا, لكني لا أوافق على كتابة الشعر وتذوّقه واستحسانه محشوّا بالغريب على نحوٍ لا أقول لا يفهمه أبناء عصرنا لغربتهم عن لغتهم ـ كما يقول الفاضل محمد الجهالين ـ بل إنه لغريبٌ حتى على العرب الفصحاء من القدماء في عصور الاحتجاج! وستقولون: أنّي لك هذا القطع والجزم؟! ,فسأقول: دونكم ما اختارته العرب وحفظته من أشعارها من روائع الشعر في العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي ,من أشعار الفحول وغيرهم؛ بل انظروا إلى ما يمتّعنا به رؤبة نفسه من بدائع الشعر العربي في منتدى الأدب؛ فهل ترون فيه مثل هذا الغريب الذي ترونه في رجز رؤبة ,أعني سالما؟! إن جلّ جيد شعر العرب الذي حفظوه ونقلوه حتى وصل إلينا إنما هو:
1 - من الشعر الواضح الجليّ البهيّ الذي لم تكدّر صفوه غرابة اللفظ؛وهو ـ على وضوحه ـ بعيد الغور, محكم الصنعة ,رقيق اللفظ , بديع المعنى.
2 - أو من الشعر الغامض؛الذي لم يذهب غموضه ببهائه؛ فكان مما يحصّل بعد محاولة ومداولة ,فيكون العاثر به كالواقع على خبيئة!
أمّا ما يُختار حفظه لحفظ اللغة؛ فبابٌ آخر يجمع الشعر وغيرالشعر؛ فقد جمع اللغويون والنحاة كلام العرب في عصور الاحتجاج حفظا للغة ,وكان مما جمعوا في هذا الباب أراجيز العجّاج, وابنه رؤبة, وحفيده عقبة, وغيرهم؛وهذا بابٌ آخر غير باب الشعر ,ويدخل منه عندي ما يكتبه سالم (رؤبة الفصيح) من مثل النص الذي أشرتُ إليه في ردي السابق؛فإن أبيتم إلا أن يدخل من الباب الأول أبيتُ , وهذا رأيي؛لأن الحفاظ على شعر العرب وذائقتهم في اختيار الشعر واستحسانه, والإبقاء على ذلك حيًّا في نفوس محبي العربية؛ليس بأقلّ شأنًا في الحفاظ على اللغة؛ بل إنه ـ والله ـ لأعظم أثرا, وأشدّ خطرا ,في الحفاظ على روح العربية من الاندثار, بل في بقاء البرهان الكافي والدليل الشافي على إعجازالقرآن العظيم , ودونكم ما كتب عبد القاهر الجرجاني في هذا الباب! وحسبكم ما كان يحفظ ابن عباس, رضي الله عنه ,من روائع شعر العرب ,وغرر قصائدهم, يستعين بها في تأويل القرآن؛ أفآلأراجيز الغريبة كان يحفظ أم القصائد المحكمات المذهبات السائرات النادرات؟!
وكما قلتٌ في ردي السابق:
لابد أن نضع كل شيء في موضعه؛ ليسلم لنا كلُّ شيء!
وخلافا لما يراه شيخنا وكبيرنا وأستاذنا د. شوارد فإني أحب من شاعرنا لغته المتميزة، ومنهجه الفريد بين أهل الفصيح، وهو منهج يقرب منه شيخ الإبداع الجهالين، الذي يشكو كلنا وطء غيابه!
لعلّك ـ لو رجعت إلى ردي السابق وصدر هذا الردّ ـ لأدركتِ ألّا خلاف؛وأنّي أيضًا أحبّ من راجزنا ـ ولا أقول (شاعرنا) ,وإن كنتُ أراه في هذه شاعرا "لغته المتميزة، ومنهجه الفريد بين أهل الفصيح",فإن كان مرادك أنّك تتذوقين ما يكتب ـ مطلقا ـ بوصفه شعرا؛ فالخلاف قائم, وقد نبهتُ على ضرورة وضع كلّ شيءٍ في موضعه!
ما حرّضني على التعقيب هذه المرّة أنني أريد أن أقول: إن هذا النصّ دون نصوص أبي الهذيل التي ألفناها، وإن كنت قادرة على أن أستخرج منه لآلئ وعيونا تروق لكل ناظر،
هو كما قلتِ ,وإنما قستُه على ما اطلعتُ عليه من أراجيزه؛ ورأيتُ فيه ما يُرجى به وُلُوجُه من باب الشعر, وهو أهلٌ له؛بما يملك من معجمٍ لغوي محيط, وحس شعري رهيف؛دلّ عليه ما نراه من اختياراته في منتدى الأدب!
وأذكّر بأننا يجب ألا نُغفل، ونحن نقرأ لأستاذنا أبي الهذيل، أنه في الثالثة والعشرين من عمره المديد على طاعةٍ وعمل صالح، ومن طلاب كلية التجارة، تبارك الله، ومع هذا فهو يمتعنا بمثل هذه الروائع! زاده الله علما وأدبا، ورفع قدره، وبارك فيه وفي عمره
لم أكن أعلمُ شيئًا عن عمر هذا اللغوي الشامخ بعلمه, ولا عن دراسته ,وكم أثار دهشتي ما حواه من لغة العرب في هذه السن ,وهو غيردارسٍ للعربية! ,غير أنّ ذلك لا ينبغي أن يصرفنا عن بيان الحقّ والنصح لكل متأدب؛ فالكلام الذي قلتُه لا يخص المبدع رؤبة (سالمًا) وحده ,ولا الأديب محمد الجهالين ـ وأعترف بتقصيري في الاطلاع على شيء من نصوصه لضيق الوقت ـ لكنه يمسّ قضيةً مهمةً لابد من بيانها وكشفها؛لأنها ذات صلة وثيقة بما نحن فيه من الحفاظ على لغة القرآن من طريق الحفاظ على الارتقاء بالذوق الأدبي الذي لا ينفصل أبدا عن قضية الإعجاز والإيمان!
ثمّ أقول في جهةٍ أخرى من القول: إن العرب تقول: من ألّف فقد استهدف ,وتقول أيضا: ما يزال الرجل في مأمنٍ من عقله حتى يؤلّف شعرًا أو يكتبَ كتابا! ولعل في نقد الناقدين لنصوص أبي الهذيل , مع ما يملكه من حسٍ لغوي رهيف ,وطبعٍ شفيف, ما يدفعه إلى أن يكون كسابقيه من شعراء العرب الذين بلغوا في الشعر مبلغًا ـ على حداثة سنهم؛ فهذا أبو تمام رحمه الله , وقد ترك لنا شعرا مطبوعًا في أربعة أجزاء؛مات ولم يبلغ التاسعة والثلاثين ,ولم يُرْمَ شعر شاعر من العرب بمثل ما رمي به شعره من سهام الناقدين! ومع ذلك فقد بقي له شعر عظيم رفعه إلى درجة الفحول ,بل إنه من نوادر شعر العرب ,وهذا الشابي في الشعراء المحدثين ,ترك لنا تلك الروائع, ولم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره!
السلام عليكم
لا تتحدثوا عن غريب اللغة عند رؤبة، بل تحدثوا عن اغترابنا عن اللغة، فالذي كان سهلا واضحا عند آبائنا، صار صعبا غامضا عند أبنائنا، وغدا يصبح مشهور جيل أولادنا مهجور جيل أحفادنا. [/ b]
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛وبعد؛فأهلًا بك أخي الأديب الكريم محمد , ولعلّه قد اتضح لك ـ الآن ـ أنّي لا أُنكرعلى المبدع رؤبة ولا على غيره ورود الغريب في ما يكتبه؛ بل تذوق ما كثر فيه الغريب منه ـ بوصفه شعرا, ولعلك تعلم فرق ما بين الأمرين , حفظك الله ورعاك.
حفظ الله علينا لغتنا, وبصّرنا بما ينفعنا ,ووزادنا علمًا وفقها ,و حفظ الله الأديب الأريب رؤبة , ومن نحا نحوه, وزداهم علمًا وتوفيقا.
وحفظكم الله, أهل الفصيح , ورعاكم.
¥