ـ[جلمود]ــــــــ[22 - 05 - 2009, 04:28 ص]ـ
أما الصدر فقد عجبتُ اليوم إذ رد علي أحد الإخوة الشعراء
في أحد المواقع بقوله:
إنتهى
فسارعت بالبحث عن الأبيات و خاصة عجز البيت الثاني
فوجدتها لابن رشيق (مع العلم أني لم يسبق لي أبدا قراءة أو سماع هذا البيت
من قبل) وحينها لم يسعني إلا أن أقول لنفسي صدق -عندي بالدليل العملي القاطع- المتنبي إذ قال بخصوص السرقات الشعرية: " [ color="navy"] الشعر جادة و قد يقع الحافر على الحافر"
بارك الله فيكم أخي الشاعر العزيز!
واسمح لي بتعليق يسير حول بيتك وبيتي ابن رشيق، والرؤى هنا فردية قائمة على التذوق الذي لا يكون إلا متسعا للرأي الآخر:
أحببت أن أبين الفرق ــ عندي ــ بين استعمال شاعرنا الباز لهذه الجملة وبين استخدام ابن رشيق لها (فأَطْعَمْتُهُ لَحْمي وأَسْقَيْتُهُ دَمي) وإن اتحد المعنى والوزن وأغلب اللفظ.
لقد جاءت هذه الجملة عند ابن رشيق ضمن صورة ثرية توشحت بأجمل المعاني والدلالات:
وَقائِلَةٍ ماذا الشحُوبِ وذا الضَّنا ... فَقُلْتَ لها قَوْلَ المَشُوقِ المُتيَّمِ
هَواكِ أَتاني وَهُوَ ضَيْفٌ أُعِزُّهُ ... فأَطْعَمْتُهُ لَحْمي وأَسْقَيْتُهُ دَمي
لقد رسم لنا الشاعر لوحة رائعة لمعاني الحب والعشق والكرم، لقد جسد من محبوبته طيف عشقه لها وهيامه بها وقد حل عليه ضيفا عزيزا، وقد استخدم صيغة المضارع (أعزه) ليدل على إخلاصه لها وتجدد المعزة بتجدد الزمان والأحوال، وإذا كان أكرم العرب قد ذبح لضيفه أحب الخيل إلى قلبه إكراما له، فإن شاعرنا لأكرم منه وأعرف بمنزلة الضيف وما يستحق، فلم يجد ذبيحا يليق به إلا نفسه يريقها على رضا ومحبة، ليس هذا فحسب وإنما كان طاهيا للحمه وساقيا لدمه، مستخدما تلك الصيغة التي تدل على التجدد لتفيدنا استمرار الإطعام والسقاية مدة من الزمان وتدرجهما زيادة في التدليل، وربما حتى يتأكد أنها قد أتت عليه كله أكلا وشربا؛ فيفني فيها ليتحد معها، ولعمري! لتلك رغبة كل شاعر صادق في حبه!
ولا أنسى أن أشير إلى بعض الدلالات الأخرى التي تضمنتها هذه الصورة من استخدامه للفعل الماضي (أتاني) للدلالة على وقوع الأمر وكونه قضاء لا مفر منه، كذلك الشطر الأخير كناية عن هزاله وضعفه، وكنايه في الوقت ذاته عن هيامه القاتل بمحبوبته، كذلك تلك الحيوية التي أضفتها سمة الحوار بين الشاعر ومحبوبته، بل والطرافة التي أجاب بها الشاعر عن سؤال محبوبته، فكأنه يقول لها تسألينني عن علتي وأنت الداء.
حاولت في هذه الوقفة اليسيرة أو أوضح جمال هذه العبارة ورشاقتها في بيتي ابن رشيق، فالحسن والجمال لا يكونا في اللفظة ذاتها، وإنما يكونا في توظيفهما في الموضع المناسب، فلغة الشعر ولغة النثر كلتاهما لغة واحدة مشتركة المفردات، وإنما الذي يفرق بينهما الصياغة والتوظيف، وقد أحسن ابن رشيق التوظيف، فاختلف الحكم، وبان الفرق بين استخدام الباز واستخدام ابن رشيق.
والسلام!
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[22 - 05 - 2009, 08:11 ص]ـ
كل هذا الكلام ولم يبين للباز أحدكم أين تكمن طريدته؟
جلمود أفزع ثلاثا فخرجت إلي حيث مصيد (فتح فسكون ففتح) الباز وسمان طرائد لم تزل
تحت ستار الأحمر
أخرجوها
ـ[جلمود]ــــــــ[22 - 05 - 2009, 09:37 ص]ـ
عودا على بدء مع الباز ورائيته الساحرة!
كأنِّي بحِبْري بعدما كان مخلصا ... يُرَجِّي فراقي شاكيا شدّةَ العسر
قمة الأداء وروعة البيان في ذلك الفعل بتلك الصيغة، ولعمري! لقد قرأت هذا الفعل أسطرا وصفحات، وما مللت منه وما ملّ على كثرة الورود، أتراه قول شيطان أم قول كاهن! بل هو السحر، الذي قال فيه نبينا ـ صلى الله وعليه وسلم: " إن من البيان لسحرا ".
وحتى نسحر القارئ معنا ــ وإن كان الأصل أن يظل السحر مستورا عن الأعين حتى يؤتي ثمره ــ نكشف بعض الستر عنه: فأصل هذا الفعل: الفعل الثلاثي (رجا)، بيد أن العرب اشتقت من هذا الفعل ثلاثة أفعال أخر، يؤدي كل منهم معنى الفعل الأصلي (رجا) ويزيد عليه بمعنى آخر يكتسبه من الصيغة، ويذكر لنا الخليل في العين هذا الفعل وصيغه بقوله:
رجا يَرْجُو رَجاءً
ورجّى يُرَجِّي
وارْتَجَى يرتجي
وتَرَجَّى يَتَرَجَّى
ولقد اقتنص الباز الصيغة الثانية، دون غيرها وهي: رجّى يُرَجِّي، وهو على وزن فعّل يفعّل، وهو وزن صرفي له سماته الخاصة والتي لا يشاركه فيها غيره، ومن هذه الشيات دلالته على التكثير في الفعل وتكرار حدوثه مرة بعد مرة.
ولقد أصاب الباز المحز وطبق المفصل؛ فالحبر يرجو مرارا وتكرارا من شاعرنا أن يخلي سبيله وأن يعفيه من حمل كلماته وأشعاره، مما يشعرنا بحب الحبر للشاعر واعتزازه به وإخلاصه له؛ فلم يهجره ويتركه مرة واحدة دون استئذان، وإنما ظل وراء الشاعر يلح عليه في شيء من الخضوع والتدلل، ولهذا رأينا الشاعر يصفه في الشطر الأول أنه كان مخلصا، ولو لم يخبرنا الباز بإخلاصه لعرفناه جليا من هذه الصيغة.
كذلك تدلنا هذه الصيغة وإلحاحها على شدة الألم الذي كان يعانيه هذا الحبر، فلا يطيق المخلص هجر سيده إلا إذا كان الأمر لا يطاق، ولعمري! لو لم يذكر الشاعر شدة عسر الحبر لرأيناها في هذه الصيغة.
وإذا كان الحبر لا يطيق تحمل صور ورموز أحزان الشاعر وهمومه ــ فكيف الحال بشاعرنا وهو يحمل الهموم بشحمها ولحمها في ضلوعه! فلا عجب إذن أن يذكر الشاعر أن الزجاج والشوك قابع بين أضلعه وإن خانته الصياغة!
وربما كان حدوث الرجاء مرة بعد مرة من الحبر نوعا من العزاء والتسلية لساعة البين والفراق؛ خوفا على الشاعر من هول الهجران ومصابه، وما ظننا بشاعر يأسو على حبره ويعطف بل ويشعر بإخلاصه له ـ إلا الجنون المطبق إذا فارقة دون توطئة وتسلية.
وللحديث ذيل،
والسلام!
¥