أسرعت إلى الهاتف ولكنه سكت
يبدو أنه أحد الزملاء، فقد تأخرت عن المدرسة
ثم رن ثانية
نظرت إلى الرقم إنها أم أحمد زوجتي
خير؟ فليس من عادتها أن تتصل في هذا الوقت المبكر إلا لأمر هام!
قلقت بشدة وتسارعت دقات قلبي وأنا أرد
- السلام عليكم، نعم يا أم أحمد؟؟!!
- وعليكم السلام وصباح السرور والأفراح وخبر سعيد يا حبيبي
لقد كان صوتها مشبوباً بفرح غامر مما خفف عني ذلك القلق الذي اجتاحني فجأة ..
- أراكِ سعيدة خير يا أم أحمد
- كم ستعطيني إن قلت لك إني حامل حامل حامل يا محود
- حامل؟! أم كالعادة حمل كاذب؟!
- أنا في المستشفى يا حبيبي الآن، حجزتني الطبيبة أمس الظهر، أشعر إن الأمر ليس كالعادة، أنا أشعر به في داخلي يا محمود، لم أستطع النوم طوال الليل حتى أخبرك ولم أشأ الاتصال بك ليلاً لعلمي إنك تنام مبكراً
- لقد سئمت من هذا يا أم أحمد، في كل مرة يحجزونك لشهور ثم لا يكون إلا الألم والبؤس
عموماً إن خرج إلى الحياة فأخبريني لأعطيك ما تطلبين وقبلها أرجوك لا تقطعين قلبي وقلبك كالعادة
قلتها بيأس وحزن وأغلقت الهاتف والدموع تتساقط من عيني فدخلت إلى دورة المياه لأتوضأ وأصلي الفجر فقد ارتفعت الشمس و تأخرت عن العمل.
كنت في قرارة نفسي أتمنى أن يكون ما تقوله أم أحمد صحيحاً
ولكن خلال هذه السنوات الخمس عشرة كم وكم دخلت المستشفى!
وكم وكم قيل لها إنها حامل ومن بعدها كان العذاب والتعذيب!
ولم أعد أصدق الأطباء وما يقولون، وأكثر ما كان يقطع قلبي أن تتصل بي أم أحمد بعد فترة لتقول لي إن الأمر انتهى وإنها عادت إلى المنزل خائبة بعد أن دفعنا الأموال الكثيرة وبذلت الوقت والجهد والصحة ...
لم تعد أم أحمد تلك المرأة التي تشع فرحة ودلالاً، لم تعد بتلك النضارة والحيوية، بل ذبلت كشجرة خضراء أسقطت أوراقها ثم أصبحت بعد مدة صفراء شاحبة
ولم يكن يصّبرها إلا إيمانها بالله و حبي الجارف لها، ومع ذلك فقد كانت تحثني على الزواج مرة ثانية لعلي أرزق بمولود لي ولها وكنت أمازحها وأقول: أنا موافق سأتزوج عندما تنجبين
فترد: إذًا لن أنجب أبداً ...
كان يوماً جميلاً عندما استدعاني مدير مدرستي إلى مكتبه
كان من عادته إنه كان يتعاهدني بين حين وآخر بالسؤال عن أحوالي
فبرغم مشاغله الكثيرة ومسؤلياته الكبيرة إلا أنه كان لا ينساني
كان متعاطفاً معي جداً
عن نفسي كنت أحبه جداً واحترمه كل احترام لأنه وبكل اختصار " إنسان " بمعنى الكلمة
فبرغم حزمه وقوة شخصيته إلا أن طبيعته كانت سمحة طيبة، يسأل عن الصغير والكبير ويقف بجانبهم في محنهم ويتلمس همومهم، لم تكن علاقته مع الجميع علاقة إدارية فقط بل بجانب هذا كانت علاقة إنسانية من الدرجة الأولى
فبرغم إنني أكبر منه سناً كنا نشعر أمامه إننا أبناءه
كنت وبكل صراحة كلما أخرج من عنده أخرج بأمل جديد وقوة معنوية عالية تضل معي لفترة طويلة
بادرني مبتسماً:
- أستاذ محمود ستكون أباً قريباً إن شاء الله، فإحساسي لا يخب
- أستاذي دائماً تشجعني وأنا أقدر لك هذه الروح الطيبة، ولا أنسى ذلك اليوم الذي أخبرتني عن صديقك الذي أنجب بعد 7 سنوات كاملة
ولا عن الآخر الذي أنجب أيضاً بعد سنين وكيف إنك أرجعت إلى الأمل بهذه القصص الواقعية وجعلتني وزوجتي نعيد حساباتنا ثانية بعد أن كدنا أن نقتنع إن الأمر وصل إلى طريق مسدود وخاصة لما وصلنا إلى هذا العمر
- ولهذا استدعيتك يا عزيزي
أتتذكر سائق الحافلة الأردني الذي كان يعمل هنا ثم ترك العمل بعد فترة، ربما لا تتذكره ولكنه أكبر منك عمراً وزوجته أكبر من زوجتك
- نعم ماذا حصل له؟
- جاءني بالأمس يحمل سلة حلاوة ويكاد يطير فرحاً وأخذني بالأحضان طويلاً، لقد أنجبت زوجته بعد 16 عاماً وسماها فاطمة
آه لو تقرأ الفرحة في عينيه يا محمود، لقد أبلغته قصتك، فقال: بلغه إن الله على كل شيء قدير
- بعد ست عشرة عاماً؟!
- نعم بعد ست عشرة عاماً
- والله يا أستاذي لقد فتحت لي باب الأمل واسعاً بحديثك هذا بعد أن ضاق شيئاً فشيء
لقد أعدت إليّ روحي المشتتة في داخلي، واستجمعت ابتسامتي المبعثرة في فمي، واحتويت قلبي الممزق في أحشائي
نعم إن الله على كل شيء قدير
لم أستطع التغلب على قطرات الدموع التي كانت تتقاطر من عيني ولم أستطع النظر إلى عينيه السعيدتين لفرحتي
¥