تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[هل نحن نفهم ما نقرأ، أو نقرأ ما نفهم؟]

ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[26 Mar 2007, 02:22 ص]ـ

[هل نحن نفهم ما نقرأ، أو نقرأ ما نفهم؟]

عندما كنا صغارا كانوا أحيانا يضحكون من أقوالنا الخاطئة، ويتعجبون من فهومنا الغريبة،

وعندما صرنا كبارا رأينا ذلك من أبنائنا، فصرنا نبتسم حينما نسمع الجمل الساذجة من الصغار، أو نرى الفهم العجيب منهم.

ولكن المتأمل في واقعنا يجد أننا في حقيقة الأمر نرتكب أشياء أكثر غرابة وأبعد فهما من هؤلاء الصغار! ويتضح ذلك بالسؤال التالي:

هل أنت تفهم ما تقرؤه؟ هل أنت حقا على يقين أنك تفهم ما تقرؤه؟

إن فهم الكلام على حقيقته يعتمد على مقدمات، منها ما هو خاص بالكلام نفسه من حيث الإفراد والتركيب، ومنها ما هو خاص بقرائن الحال التي يتنزل عليها الكلام إن كان محتملا لجهات.

ونحن نستعمل القرائن في حياتنا كثيرا جدا، بل نستعملها بغير شعور في معظم الأحيان، فالعقل اعتاد أن يستدرك ما يسقُط عن السمع من الأحرف القليلة التي تفهم من سياق الكلام، والعقل اعتاد كذلك أن يعرف ضبط الكلمة اعتمادا على سياقها فتعرف مثلا أن (ذهب) في هذه العبارة (ذهب أحمد إلى المدرسة) مفتوحة الذال والهاء، مع أنها تحتمل غير ذلك مفردة.

إن أهل العلم يختلفون في كثرة اطلاعهم ومعرفتهم وحفظهم وفهمهم، وهذا المقدار من الاطلاع والمعرفة والحفظ والفهم يؤثر تأثيرا واضحا في المقدرة على فهم الكلام المقروء ومعرفة القرائن المحتفة به، ولذلك كان الصحابة أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم؛ بل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيره من الصحابة كما في الحديث المشهور (إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر وقال (فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فكان هو الوحيد الذي فهم المقصود، وهذا لشدة ملاصقته للنبي صلى الله عليه وسلم وقوة علمه بأحواله.

الأستاذ عبد السلام هارون المحقق المشهور، عرف بتحقيق كتب الجاحظ، فصار أخبر الناس بأسلوبه، وصار يستطيع أن يميز بين كلامه وكلام غيره، وما تحتمله العبارة وما لا تحتمله، وهذا لو أمكن أن يتأتى لغيره فلا يمكن أن يكون بمثل درجته لأنه تبحر في كتب الجاحظ.

وأنت عندما تقرأ في كتب أهل العلم، تجد نفسك مع الوقت تتذوق أسلوبهم، وتعرف أن هذا أسلوب فلان، وهذا نمط فلان، وهذه طريقة فلان، وهذا مهيع فلان.

والمتقدمون من المحدثين يفعلون ذلك كثيرا؛ وذلك لأنهم لكثرة ممارستهم وطول خبرتهم، وسعة محفوظهم، صارت معرفتهم بأحوال الرواة أحيانا كمعرفتهم بآبائهم وأمهاتهم، فيستطيع أن يجزم بأن هذا الكلام لم يصدر من فلان، أو أن هذا القول لم يقله فلان، كما جاء عن يحيى بن معين عندما أقسم أن عبد الله بن المبارك لم يقل هذا الكلام!

فهذه مرتبة عالية شريفة تستطيع فهمها عندما تستنكر أنت قولا نسب لأبيك خطأ.

ونحن نعرف مثلا الشيخين (ابن باز) و (الألباني) حق المعرفة، فإذا جاءنا من يقول: إن الشيخ ابن باز رحمه الله كان يعرف اللغة الصينية، وإن الشيخ الألباني رحمه الله مكث سنين في البرازيل!! فإننا نقطع بأنه كاذب أو مخطئ، فإذا جاء من لا يعرف الألباني فقد يقول: ما لهؤلاء كيف يزعمون علم الغيب؟!

والمقصود أن القرائن من أقوى السبل إن لم تكن أقوى السبل على الإطلاق لفهم الكلام، واختلاف درجات أهل العلم في علمهم يؤدي إلى اختلافهم في مقدرتهم على فهم كلام غيرهم.

وانحطاط درجاتنا عن درجات أهل العلم قد يحملنا في كثير من الأحيان على أن نستنكر فهمهم لبعض النصوص، ونقول: هذا فهم خاطئ! أو هذا خلاف الظاهر! أو هذا تخرص بالغيب! أو نحو ذلك من العبارات التي لو صدرت ممن هو في مثل علمهم لكانت مقبولة، أما صدورها ممن لم يبلغ عشر معشارهم فهذا شأن آخر.

قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى}، فالمادة واحدة وهي القرآن، ولكن استقى منه المؤمنون الهدى والشفاء، وانقلب الكافرون فقط بالوقر والعمى!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير