آهٍ ثم آه, لو أنك رأيتني لحظتها يا محمد, وأنا أمتُ إلى تلك الدرقاء, الشماء العلياء بالمدح والثناء, لقلتَ: " إنه لا يليق بالكيِّسِ أن يستجير بالرمضاء ... عُدْ إلى رشدك ودع ما للأهكاء للأهكاء". نعم إنه لو كنت شاهدتني لحظتها وأنا أجهز قوافل الزهراء بخطاباتي, لعلمت يقينا أني إنما كنت أدعو الجوزاء ـ شعرا ونثرا ولحنا ـ إلى هجرة صبايا الفضاء, و لأيقنت عندها عِلماً أن الجوزاء لتاركة إياهن تركا واحدا, وهذا فقط من أجل أن تقبس من أنفاس تحيتي النورانية ما لو وصفه الواصفون لما وصفوه إلا على أجلادهم البضة أو صفائح صدورهم الناعمة الفذة .... وهل أنفاسها يا محمد إلا هذه المفردات المهموسة المغزى؟ أو تلك الأجسام الجلية المعنى, نعم تلك هي!! من لولاها لما اقتحيت فضل عيادة الجوزاء, و لا نلت شرف وصف تحية تنهر من حبر محبرة وشجباء, تحية ثار لمعانها على الدرقاء ثورة عمياء, فأذاقها على مرأى الأنواء طعنته النجلاء, وحينها أشرقت شمس الأمل الجديد, وغابت سُدُمُ الوهنِ السوداء.
صديقي الفاضل, إن تحيتي لا تقل غضارة من نسمة عليلة شريفة, باسقة جليلة عريقة ... مميزة هي من دون النسائم! قلَّ أن تجدها بين تمائم الأولياء؟ وقل أن ترَأرَأ الأقلام بأعناقها المشرئبة إلا ووجدت نفسها مقفرة المادة, عاجزة تماما أن تعبر عن طربها الأخذ, ولذا تجدها تخجل وأيادي الأدباء كلما قدِمت على وصف مقام من مقاماتها, وناهيك أنها لتقشعر كِيعا وفرقا من نسج نعت من نعوتها, في أسلوب عارض أو سياق من سياقات الكلام. فلا عجبَ إذا إنْ هي كما تسمع وترى, و ذلك لأنها لا تكاد تعبر عن غير الأخوة النفيسة, بل إنها الأخوة الصفية النقية التي حبذا أن تظل بين أبناء هذه الأمة خير عهد تعاهدوا عليه, غير نابذين له في العسر و لا ناقضين له في اليسر.
وبعد التحية يا صديقي المحترم, فها هو شعاع الاعتقادُ الفكريُّ يظهر فجأة بملامح الفرح والسرور! وكأني به هذه المرة يمسك طبقا من الاستحثاث بيمناه, وصحنا من الترغيب والتشجيع بيسراه. لست أدري صراحة؟ لكنه قد يسألني هذه المرة ذكر مسألة قُلْ, إن راق لك, أنها تتصل بالمعاملات حيناً! وأنها حينا آخر تكاد برمتها تصاهر هوامش الواقع, لما تكمنه بين طياتها من حجج ودلالات مكنونة ... تلكم المسألة والقضية هي الخاطرة التي خطرت في كياني وخالجت آفاقها ملاحك روحي, حتى أصبحت تجري بجوفي مجرى الدماء في الأعصاب.
فكرتي تلك! نعم صدقني أخي ولا تتردد!! فإنها قد لاذت إليها عواطفي وانطلقت من ورائها الإرادة في اندفاع شديد غير متهور و لا عات, حتى كأن غاية مجمل هذه الإرادة تنتهي عند حد إبقاءها لنفسها والاحتفاظ بها بما لا يبيحها لغيرها ... و إنها لترتجيها وتحرص كل الحرص على أن تنمقها على هيئة فكرة مسلمَّة من العوص المهموم, مؤمنة من الغوص المغموم, وهذا حتى و كي تكون فكرتي ضآمة للغير, أو وحياً لا ينفك أن يساير الصواب من بعض أجزاءه العاهنة, الثابتة بمقاييس العقل والواقع.
أخي محمد, إنه لأعتقد فيما يمتُّ بالعلم والجهل: أن الصلة بينهما صلةُ قديمةُ قدمِ الدهرِ, أزليةُ كضيء النجم. فلا غرابة إذاً أن الناس يحبون العلم, بل ويبتسمون لحامليه بين جوانحهم حمل الأم للجنين بين أحشائها, ولا يذهلنَّك كذلك شأنهم منهم حين يفيضون عليهم بالاحترام والتبجيل, قبل الدعم بالأثمان وصنوف الإحسان, وحسب أهل العلم من العلم شرفا: أن الناس يعظمونهم بين سائر الناس أجمعين, كما أنهم يكنون لهم ـ تحت أجلاد الشارة والهيئة المظهرية ـ من المودة مثلما يكنه الآباء لآبائهم.
أمعن ترى أن حال عقلاء الناس مع ذوي العرفان هو هذا الحال, وعي أن حالهم مع الجاهل كحال الذي يزور ولا يزار ... إنهم لا يأبهون به ولا يرفعون له سكنا, ولذا ولأسباب جمة أخرى تجد بعض النبهاء يحدق وجه الجاهل بامتعاض, يتفرس رسمه ويمرق لونه كما لو كان وجهه وجه مجرم من المجرمين أو المُطَالَبِ بهم في كل مكان, وكأني بذا النبيه يشير فجأة بالبنان قائلا " أيها الناس أنظروا ها هناك, إنه الداء العضال والسم الناقع " تحذيرا منه لإخوانه أن يتخذوه خليلا, وتشجيعا لهم أن ينصروه بالعلم بعد إبغاضه لما هو عليه من أسقام الجهل المزمنة. هذا هو الأصل العتيق في تعامل المجتمع مع هاذين النقيضين, إلا أن هناك ثمة نقطة يجتمع حولها كل
¥