تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأفراد, سواء عُدُّوا من الجاهلين أو من العارفين, وهذه النقطة هي مجرد نقطة جزئية من الناحية العقلية حينما يكون العلم مقارنا بالعلم, أما من الناحية الفطرية فالنقطة نقطة كلية مطلقة, وإنها لكذلك! وليس لها إلا أن تكون على هذه الصورة, وذلك لأن البديهة هي التي تصنفها داخل أذهاننا و تستحيلها إلى الكلية المطلقة السالف ذكرها, ولكنها تبقى نقطة جزئية بعد دراستها بمجاهر الدقة, التي طالما طبعتها بهذا الطابع, وعلى كل حال فالشاهد هو أن البداهة والدراسة يلتقيان في خضم هائج لينجبا فكرة قلَّ لك أن تسمع بمثلها, وهذا خاصة عندما يخبرك صاحبها عنها, معلناً في مقاله هذا وفي يومه هذا, بجرأة لا سابق له بها: أن العلم والجهل فيما يتصل بالفطرة سيان.

العلم والجهل سيان, لكن إنْ هما كذلك فليس إلا على اعتبار أن الفطرة هي النوة التي تنسج من فوقها الأبدان ومن تحتها الأرواح ... وهذا معناه أن الجهل والعلم يتصلان لا محالة بفطرة الآدمي, فإذا كانت فطرته سليمة فهو يتقزز من غبار جهل نفسه ويفعل ما بوسعه من أجل نفضها, أما صاحب الفطرة السقيمة فهو لا يعبأ بالعلم و بالتالي لا يهتم بأبوابه أكثر مما يهتم بأكله وشرابه وملابسه.

إنك لا بد أن ترى تدخل الله بقدره النافد وقضاءه ـ من خلال قدره ـ للأول أن يتعلم ويتحرر إلى حد ما من عُقُلِ الجهل, ثم قضاءه للثاني أن يرمى في أجباب الجهل الجافّّة ـ بين حَصَيات الضحضاح الراكد ـ فيكون زاده من العلم بقدر ماء البئر من الضحضاح. وصحيح أنه تعالى من هذا الوجه قد رفع درجة الأول على الثاني بما لا يدع مجالا للشك, ولا ريب أن هدا الفضل فضل منه سبحانه, وهو منة منه محسوسة في أفهامنا إلى حد اليقين, ودليل ذلك أننا نشاهد ثمار هذا الفضل في واقعنا باستمرار, فليس للمتخلف الجهول إذًا أن يسعى سعي الحية الرقطاء وراء ما مثله مكانة العالم العلياء, وخاصة بعد معرفة هذا الكلام ... أيسعى و سعيه سعي فاشل بل و باطل من أول باكورته؟ الجواب: كلا.

وهنا يأتي السؤال ويعرض نفسه بعبارة: هل لنا قياس مفهوم الفضيلة بمقياسي العلم والجهل دون بقية المقاييس الأخرى؟ ثم هل من الحكمة أن نطلق أعنة ألسنتنا عند مقارنة الأعيان بهاذين المقياسين الجائرين أو بذلك المفهوم العام دون المفاهيم الأخرى؟ أقول كلا مرة أخرى, إنه ليس لنا والله فعل هذا, مادمنا نؤمن أن التجربةَ المعنويةَ قد أثبتت قدرة الإنسان على الإحساس وإثبات الذات بالمعنويات وبينت أنهما شيئان ملزمان للآدمي, لا في كثلة أفراد من بين سائر الأفراد ينحصران ولا أيضا في جماعة من الجماعات.

أخي, لا شك أن القدرة على الإحساس وإثبات النفس عاملان راسخان في أعماق الذكر و الأنثى, لثبات كل منهما ثبات الفطرة نفسها, وعلى افتراض تطورهما جدلا, فهما على أي حال من الأحوال لا يخرجان من دائرة الثبات, بقدر كاف ينال به كل منهما وصف المتطور.

نعم إنه لما كان عدم تطورهما من الحقائق الكبرى, فالحسنُ هو الحسنُ عند الرجل والمرأة وهذا بحد سواء, والقبيح هو القبيح في كل الأحوال, وأعلى مقامات الحسن تميح الحسن صفة الأحسن, وليس أدنى الحسن عندهما بالذي يميح الحسن صفة القبح فضلا عن الأقبح, وبناء على هذه البديهية فالحسن والقبيح إذاً صفتان متخلفتان من حيث المكانة والمنزلة, وقل إن شئت أن الصفتين صفتان تختلفان تماما, وهذا مما لا شك منه! وإن كانتا نابعتين من مصدر واحد. والخلاصة أنهما يضمان إلى لائحة المقاييس التي يقاس بها عند الاختيار, وسواء غابت واحدة منهما عند المقارنة أم لم تغيب فهما عند القياس يكونان دوما على حالة قياس جزم ويقين لا قياس شك وتحفظ.

أخي الكريم, لا تشكنَّ أن خيوط العلم والجهل كخيوط الثوب المحكم المتقَنِ نسجه ... تداخل سلسلة من الخيوط الرقيقة تنطلق من يمين القطعة الثوبية طولا بخيوط غليظة تأتي من أعلى القطعة عرضا! وجميعها قدرٌ قدَّرَ اللهُ أن يوحد منها الإنسان على صورة يختلف رسمها, ويختلف لونها من فرد لأخر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير