هنالك في الأجداب القاحلة فلاحٌ يعمل في حقله من بزوغ الفجر إلى ظهور الضحى, وهنا في القيعان فلاح لا يشرع في عمله إلا في صدر الضحى, لكنه لقدرته عن الأول ـ وصبره وحبه لعمله وصلاحية بيئته ـ يستمر يعمل بوفاء ومهنية عاليين ... هكذا, إنه يعمل في حقل عبادة مثمرة ولا يتوقف عنها إلا من أجل عبادة أخرى, وإنه لا يزال ينتقل من عبادة لأخرى حتى يرى الشمس تأفل من فوقه, وتأوي إلى جحرها وحصنها الحصين.
وسواءٌ كان العمل في مجال الفلاحة أو الزراعة أو الصناعة أو في غيرها من مجالات العطاء, فالأصل المنصوص عليه عقلا وشرعا لا يقترن بمجال العمل أو قدرة المرء على القيام به و حسن أدائه, كما أنه لا يقاس أيضا بالإنتاج الإجمالي, قليلا كان أو كثيرا, لكنّه يقترن ويقاس بالحلال والحرام, مما يعنى بوضوح أن حكم الله حكم شامل عام, لا يخص فئة من الناس أو جماعة دون أخرى, وإنْ عَدّ بعض الزائغين المتواكلين أنفسهم من الخواص ابتغاء التملص من الفرائض والواجبات الشرعية, وذلك لأن الدين لله وحده, تستوي فيها جميع الطوائف والفئات, عجمية كانت أو عربية.
وعلى ما سلف ذكره من الكلام , فمن الضروري أن نفقه أن حكم الله جل تعالى لا يأخذ بالاعتبار شأن الفرد الخاص بقدر ما يأخذ شأنه العام, وشأن الفرد العام هذا, قد عُلِمَ أنه في عالم الواقع يختلف بحسب الأفراد والأغراض, وبحسب البيئات التي تتم فيها الأعمال, شرا باطلا كانت أو خيرا حقا.
أخي محمد, لك مني الآن تحية طهر وصفاء, تحية كان لزامًا عليّ أن أمدّ أصابعي إلى السماء! علّ أن أكُ أول من عثر عليها صافية بيضاء.
آهٍ ثم آه, لو أنك رأيتني لحظتها يا محمد, وأنا أمتُّ إلى تلك الدرقاء, الشماء العلياء بالمدح والثناء, لقُلتَ: " إنه لا يليق بالكيِّسِ أن يستجير بالرمضاء ... عُدْ إلى رشدك ودع ما للأهكاء للأهكاء". نعم إنه لو كنت شاهدتني لحظتها وأنا أجهز قوافل الزهراء بخطاباتي, لعلمت يقينا أني إنما كنت أدعو الجوزاء ـ شعرا ونثرا ولحنا ـ إلى هجرة صبايا الفضاء, و لأيقنت عندها عِلمًا أن الجوزاء لتاركتهن تركا واحدا, وهذا فقط من أجل أن تقبس من أنفاس تحيتي النورانية ما لو كان وصفه الواصفون لما وصفوه إلا على أجلادهم البضة أو صفائح صدورهم الناعمة الفذة .... وهل أنفاسها يا محمد إلا هذه المفردات المهموسة المغزى؟ أو تلك الأجسام الجلية المعنى, نعم تلك هي!! من لولاها لما اقتحيت فضل عيادة الجوزاء, و لا نلت شرف وصف تحية تنهر من حبر محبرة وشجباء, تحية ثار لمعانها على الدرقاء ثورة عمياء, فأذاقها على مرأى الأنواء طعنته النجلاء, وحينها أشرقت شمس الأمل الجديد, وغابت سُدُمُ الوهنِ السوداء.
صديقي الفاضل, إن تحيتي لا تقل غضارةً من نسمة عليلة شريفة, باسقةٍ جليلةٍ عريقةٍ ... مميزة هي من دون النسائم! قلَّ أن تجدها بين تمائم الأولياء؟ وقل أن ترَأرَأ الأقلام بأعناقها المشرئبة إلا ووجدت نفسها مقفرة المادة, عاجزة تماما عن نسخ طربها الأخاذ, ولذا تجدها تخجل وأيادي الأدباء كلما قدِمت على وصف مقام من مقاماتها, وناهيك عن كونها لتقشعر كِِعًا وفرقًا من نسج نعت من نعوتها, في أسلوب عارض أو سياق من سياقات الكلام. فلا عجبَ إذًا إنْ هي كما تسمع وترى, و ذلك لأنها لا تكاد تعبر عن غير الأخوة النفيسة, بل إنها للأخوة الصفية النقية التي حبذا أن تظل بين أبناء هذه الأمة خير عهد تعاهدوا عليه, غير نابذين له في العسر و لا ناقضين له في اليسر.
وبعد التحية يا صديقي المحترم, فها هو شعاعُ الاعتقادِ الفكريِّ يظهر فجأة بملامح الفرح والسرور! وكأني به هذه المرة يمسك طبقًا من الاستحثاث بيمناه, وصحنا من الترغيب والتشجيع بيسراه. لست أدري صراحة؟ لكنه قد يسألني هذه المرة ذكر مسألة قُلْ, إن راق لك, إنها تتصل بالمعاملات حينًا! وأنها حينًا آخر تكاد برمّتها تصاهر هوامش الواقع, لما تكمنه بين طياتها من حجج وبراهين مكنونة ... تلكم المسألة أو القضية هي الخاطرة التي خطر همسها في كياني وخالجت آفاقها ملاحك روحي, حتى أصبحت تجري في جوفي مجرى الدماء في الأعصاب.
¥