وهنا يأتي السؤال ويعرض نفسه بعبارة: هل لنا قياسَ مفهوم الفضيلة بمقياسي العلم والجهل دون بقية المقاييس الأخرى؟ ثم هل من الحكمة والعدل أن نطلق أعنة ألسنتنا عند مقارنة الأعيان بهاذين المقياسين الجائرين أو بذلك المفهوم العام الأوحد دون المفاهيم الأخرى؟ أقول مرة أخرى كلا, إنه ليس لنا والله فعل هذا, مادمنا نؤمن أن التجربةَ المعنويةَ قد أثبتت قدرةَ الإنسانِ على الإحساس وإثباتِ الذات بالمعنويات وبينت أنهما شيئان ملزمان للآدمي, لا في كثلة أفراد من بين سائر الأفراد ينحصران ولا أيضًا في جماعة من الجماعات.
أخي الكريم, لا شكّ أن القدرة على الإحساس وإثبات النفس عاملان راسخان في أعماق العباد, لثبات كل منهما ثبات الفطرة نفسها, وعلى افتراض تطورهما جدلا, فهما على أي حال من الأحوال لا يخرجان من دائرة الثبات, بقدر كافٍ ينال به كل منهما وصف المتطور.
نعم, إنه لما كان عدم تطورهما من الحقائق الكبرى, فالحسنُ هو الحسنُ عند الرجل والمرأة بحد سواء, والقبيح هو القبيح في كل الأحوال, وأعلى مقامات الحسن تميح الحسن صفة الأحسن, وليس أدنى الحسن عندهما بالذي يميح الحسن صفة القبح فضلا عن الأقبح, وبناء على هذه البديهية المنطقية فالحسن والقبيح إذاً صفتان متخلفتان من حيث المكانة والمنزلة, وقل إن شئت أن الصفتين صفتان تختلفان تماما, وهذا مما لا شك منه! وإن كانتا نابعتين من مصدر واحد. والخلاصة أنهما يضمّان إلى لائحة المقاييس التي يقاس بها عند الاختيار, وسواءُ غابت واحدة منهما عند المقارنة أم لم تغب فهما دوما عند القياس يكونان على حالة قياس جزم ويقين لا قياس شك وتحفظ.
أخي الكريم, لا تشكنَّ في أن خيوط العلم والجهل كخيوط الثوب المحكم المتقَنِ نسجه ... تداخل سلسلة من الخيوط الرقيقة تنطلق من يمين القطعة الثوبية طولا بخيوط غليظة تأتي من أعلى القطعة عرضا! وجميعها قدرٌ قدَّرَ اللهُ أن يوحّد منها الإنسان على صورة يختلف رسمها, ويختلف لونها من فرد لأخر.
و واهم في اعتقادي من لا يرى أننا على موعد بموضوع الإنسان حين يكون حديثُنا في الفطرة! ووهمه في غير محله إن جاء هنا على أساس أننا نفرق بينهما بجعل الكلي دون الجزئي وببسطهما سويًّا تحت معنىً واحد ... أقول: إن الأمر في الحقيقة على خلاف وهمه, إذ أننا نرى أن الفطرة هي نواة جميع البشر على اختلافهم معتقداتهم و أهدافهم, أما جميع ما تفرّع منها فهو لا يخرج عنها بشكل قطعي, سواء كان صورة مركبة أو قيمة روحية, كما أننا نرى كذلك أن الفطرة بادي ذي بدء أمر ثابت متطور فعاهِن كما هو شأن الإنسان, وهي تلك النواة التي لن يستطيعَ أحدٌ أن يغير كنهها, مهما فعل و حاول أن يفعل, إذ أنها في آخر المطاف تعود إلى أصلها العريق, وهذا بغض النظر عن الانحراف الذي قد يشوبها أحيانًا وبالرغم أيضًا من الضباب الذي يشين صفوها الأصيل أحيانًا أخرى.
إن شبح الفارق بين العلماء والجهلاء شبح لا وزن له, وهو في الوجود ليكاد على وجه العموم أن يماثل الغول في وجوده! وجودٌ بلا وجود, لا متصل بالحياة هو ولا منفصل عنها تمامًا. إننا لو تمعننا أمرَ الجاهلِ والعالمِ ـ بأنظار العقل السليم لا بأبصار من حديد ـ لانقشع لنا شأنهما على حقيقته الجوهرية, لا على ما يبدو لنا من أول وهلة أنه حقيقة حتمية, فالعالم والجاهل من حيث الواقع الحسيّ وفقه البدائه والمعلومات يستويان, وهما أمام المنظر البهيج والوردِ الشذي المرتَّج والظلِ الواسع الفجِّ شريجان بل و مماثلان, كما أنهما لا يختلفان في وصف الوجه الجبل بالوجه الجبل, وأنف العجل بأنف العجل ,وهذا يعني أنهما لا يختلفان فيما يتصل بالقدرة على الإحساس في المواقف المعينة والغير معينة وناهيك عن تقارب أحاسيس كل منهما أمام المجودات من نبات وحيوان وجماد, وعلى هذا أضف كذلك قدراتهما الفعالة لتمحيص النفس بالجهد وإمكانياتهما لبلوغ أسمى المقامات. هذا بالنسبة للمعلومات بصفة إجمالية, أما فيما يخص ما أسميه أنا بفن المصطلحات ـ الذي نجده في مختلف العلوم والفنون ـ فكلمتي فيه أنه كنز ليس للجهلاء فيه من نصيب, ولا أن يطمعوا فيه بمطمعة أدنى الحشرات وأحقرها, ومجرد التقائهم مع العلماء في غير جزئية واحدة من جزئيات الالتقاء أمر لا يفيد طماعيتهم فيه بقدر ما لا يفيد الشراب الطُسأة, ولك إن شئت أن
¥