تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أخي محمد, إنه لأعتقد فيما يمتّ بالعلم والجهل: أن الصلة بينهما صلةُ قديمةُ قدمَ الدهرِ, أثيلة كضيء النجم. فلا غرابة إذاً في أن الناس يحبون العلم, بل ويبتسمون لحامليه بين جوانحهم حمل الأم للجنين بين أحشائها, ولا يذهلنَّك كذلك شأنهم معهم حين يفيضون عليهم بأنواع الاحترام والتبجيل, قبل الدعم بالأثمان وصنوف الإحسان, وحسب أهل العلم من العلم شرفًا: أن الناس يعظمونهم بين سائر الناس أجمعين, كما أنهم يكنون لهم ـ تحت أجلاد الشارة والهيئة المظهرية ـ من المودّة مثلما يكنه الآباء لآبائهم.

أمعن ترى أن حال عقلاء الناس مع ذوي العرفان هو هذا الحال, وعِ أنَّ حالهم مع الجاهل كحال الذي يزور ولا يزار ... إنهم لا يأبهون به ولا يرفعون له سكنًا, ولذا ولأسباب جمة أخرى تجد بعض النبهاء يحدق وجه الجاهل بامتعاض, يتفرس رسمه ويمرق لونه كما لو كان وجهه وجه مجرم من المجرمين أو المُطَالَبِ بهم في كل مكان, وكأني بذا النبيه يشير فجأة بالبنان قائلا " أيها الناس انظروا ها هناك, إنه الداء العضال والسم الناقع " تحذيرا منه لإخوانه أن يتخذوه خليلا, وتشجيعًا لهم أن ينصروه بالعلم بعد إبغاضه لما هو عليه من أسقام الجهل المزمنة. هذا هو الأصل القديم في تعامل المجتمع مع هذين النقيضين, إلا أن هناك ثمة نقطة يجتمع حولها كل الأفراد, سواء عُدّوا من الجاهلين أو من العارفين, وهذه النقطة هي مجرد نقطة جزئية من الناحية العقلية حينما يكون العلم مقارنا بالعلم, أما من الناحية الفطرية فالنقطة نقطة كلية مطلقة, وإنها لكذلك! وليس لها إلا أن تكون على هذه الصورة, وذلك لأن البديهة هي التي تصنفها داخل أذهاننا و تستحيلها إلى الكلية المطلقة السالف ذكرها, ولكنها تبقى نقطة جزئية بعد دراستها بمجاهر الدقة, التي طالما طبعتها بهذا الطابع, وعلى كل حال فالشاهد هو أن البداهة والدراسة يلتقيان في خضم هائج لينجبا فكرة قلَّ لك أن تسمع بمثلها, وهذا خاصة عندما يخبرك صاحبها عنها, معلنًا في مقاله هذا وفي يومه هذا, بجرأة لا سابق له بها: أن العلم والجهل فيما يتصل بالفطرة سيّان.

العلم والجهل سيّان, لكن إنْ هما كذلك فليس إلا على اعتبار أن الفطرة هي النواة التي تنسج من فوقها الأبدان ومن تحتها الأرواح ... وهذا معناه أن الجهل والعلم يتصلان لا محالة بفطرة الآدمي, فإذا كانت فطرته سليمة فهو يتقزز من غبار جهل نفسه ويفعل ما بوسعه من أجل نفضها, أما صاحب الفطرة السقيمة فهو لا يعبأ بالعلم و بالتالي لا يهتم بأبوابه أكثر مما يهتم بأكله وشرابه وملابسه.

إنك لا بد أن ترى تدخل الله بقدره النافذ وقضائه ـ من خلال قدره ـ للأول أن يتعلم ويتحرر إلى حد ما من عُقُلِ الجهل, ثم قضاءه للثاني أن يرمى في أجباب الجهل الجافّّة ـ بين حَصَيات الضحضاح الراكد ـ فيكون زاده من العلم بقدر ماء البئر من الضحضاح. وصحيح أنه تعالى من هذا الوجه قد رفع درجة الأول على الثاني بما لا يدع مجالا للشك, ولا ريب أن هدا الفضل فضل منه سبحانه, وهو منة منه محسوسة في أفهامنا إلى حد اليقين, ودليل ذلك أننا نشاهد ثمار هذا الفضل في واقعنا باستمرار, فليس للمتخلف الجهول إذًا أن يسعى سعي الحية الرقطاء وراء ما مثله مكانة العالم العلياء, وخاصة بعد معرفة هذا الكلام ... فهل يسعى و سعيه سعي فاشل بل و باطل من أول باكورته؟ الجواب: كلا.

وهنا يأتي السؤال ويعرض نفسه بعبارة: هل لنا قياسَ مفهوم الفضيلة بمقياسي العلم والجهل دون بقية المقاييس الأخرى؟ ثم هل من الحكمة والعدل أن نطلق أعنة ألسنتنا عند مقارنة الأعيان بهاذين المقياسين الجائرين أو بذلك المفهوم العام الأوحد دون المفاهيم الأخرى؟ أقول مرة أخرى كلا, إنه ليس لنا والله فعل هذا, مادمنا نؤمن أن التجربةَ المعنويةَ قد أثبتت قدرةَ الإنسانِ على الإحساس وإثباتِ الذات بالمعنويات وبينت أنهما شيئان ملزمان للآدمي, لا في كثلة أفراد من بين سائر الأفراد ينحصران ولا أيضًا في جماعة من الجماعات.

أخي الكريم, لا شكّ أن القدرة على الإحساس وإثبات النفس عاملان راسخان في أعماق العباد, لثبات كل منهما ثبات الفطرة نفسها, وعلى افتراض تطورهما جدلا, فهما على أي حال من الأحوال لا يخرجان من دائرة الثبات, بقدر كافٍ ينال به كل منهما وصف المتطور.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير