هذا, واعلم رحمك الله أنني لا أنكر فضل العقل ولا أجحد مزاياه الفاضلة, ولكن لو كان لنا أن نستدل بغير كتاب الله و سنة رسوله لكان الوجدان أقدر من الأول, لأن المعروف عن العقل هو تسجيل الظواهر ـ دون رصد جوهرها ـ والاكتفاء بنسخ ما يبدو من ظاهرها دون البحث في كنهها, بينما الوجدان قد يستطيع في بعض الحالات خرق حجب المادة, ليدرك كنهها وهذا ليس من مقدور الأول ولا من وسعه في شيء, وإن في الوجدانِ من الآفاق المنفهقة, المتسعة عراص فنائها ما يعجز العقل عن إدراكه, لأن العقل بطاقته المحدودة قد يستقيم تصوره في بحر الوجدان كما لا يستقيم من تلقاء نفسه, وإن كان دور الوجدان في الدلالة هنا لا يعنينا.
لا حرج أن تأخذ بقول منفرد لعالم مستقل ممن خالف الجمهور في مسألة فرعية من مسائل الخلاف, لاسيما إن كانت هناك من الأدلة ما يسوّغها و يجعلها محل أخذ ورد و اجتهاد, ولكنك أن تجمع أقوال كل مخالف للجمهور, لغرض تيسير دين الله وتسهيل أمره وتمرير بواسطة هذه الأقوال ما ليس منه في شيء, هذا هو الذي لا أوفقك عليه, وهو عندي مذهب بلا حجة ولا إمام ـ اللهم إلا أن يكون إمامه زنديقا يدعو للتي هي أفسد ـ وهو نفس درب الرويبضات التي يقع الشيطان على رأس هرمها المنتكسة نواصيه, القائمة أصوله على الهوى والتحريف والجهل أحيانا, وأحيانا أخرى على التأويلات الفاسدة.
ولكون الفقه أصولا وقواعد بادئ ذي بدء, فلا مخرج للفقيه ولا سلامة له إلا بالعودة إلى الأصول, حتى ينهل من مناهلها السليمة و يرشف من ينابيعها الأصيلة, ولا أحد يشك أن الأصول الفقهية ستجمع له من العلم النافع الشيء الكثير, وذلك في بضع كليمات معدودة, ولذا كان الاهتمام بها ضروريا ودراستها فرضا لازما على كل فقيه. هذا من جهة, أما من جهة ثانية فعلى الحصيف أن يهتم بتعليلات الفقهاء التي قلّ أن يخلو منها كتاب فقه, و إن هذه الأخيرة لعين الأصول نفسها, إن لم تكن بشكل عام ذات فوائد عامة, مبنية على أصل ثابت مشهور, مما جرى تداوله واستحسان الأخذ به عند الفقهاء. وأختم رسالتي بقول الإمام الألباني في شريط له بعنوان لماذا نتبع السلف, حيث يبين مفهوم الفقه بمعناه الخاص و العام, يقول رحمه الله تعالى
لأننا ندين الله ونعتقد جازمين أن العلم, ليس هو أن يقرأ الفقيه بل المتفقه كتابا من كتب مذهب من كتب المذاهب الأربعة, المتبعة من مذاهب أهل السنة والجماعة, ثم هو لا يدري أهذا الذي قرأه هو ثابت بالكتاب أم بالسنة أم بالإجماع الأمة , وأن هذا الإجماع إن كان منقولا هل هو إجماع ثابت صحيح, أم تبت ذلك بالقياس والرأي والإستنباط؟ ثم هل هذا القياس قياس جلي أم خفي؟ هل هو صحيح أم ضعيف؟ ليس الفقه أن يقرأ كتابا من تلك الكتب ثم هو لا يدري من أين جاءت هذه المسائل التي يقرؤها, ثم يتبناها وينشروها, ليس هذا هو العلم. العلم كما قال ذاك القائل العالم المحقق حقا ألا وهو ابن القيم الجوزية رحمه الله, العلم قال الله قال رسوله إلى آخره.
هذا والله أعلم, وأسال الله المنة والعافية, وأستودعك الله الذي لا تضع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
1ما أصح عبارتك هذه لو كانت على النحو التالي " ولا أستورد الأقوال خارج المذهب إلا عند مَنْ عُلمَ بحب الأمة, والفقه والعلم بالكتاب والسنة"
2الذي لمس حاجته إلى شرب الخمر ... فنظر في خلاف أهل العلم ... فرأى أن العراقيين يفرقون بين النبيذ – وهو عصير غير العنب – فيجيزونه ما لم يصل إلى حد الإسكار ... ويحرمون ما عداه من المسكرات ... بينما ذهب الحجازيون إلى التسوية بين الشرابين وتحريمهما ... فاستطاع "ابن الرومي" – بقدرته التطويرية – أن ينتزع إباحة الخمر من هذا الخلاف ... فأخذ من قول العراقيين: إباحة النبيذ ... وأخذ من قول الحجازيين: أن حكم الشرابين واحد ... والنتيجة من "ضرب الطرفين في الوسطين" الخمر حلال.
3جاء في شريط الفقهاء ومتطلبات العصر للشيخ العلامة صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له, فقهاء النصوص, العالمون بها, هم أقدر الناس على ... على إجابة ... هم أقدر العلماء والفقهاء, على إجابة ما يسأل عنه الناس ويوافق ما يحتاجون إليه, حتى إن بعض فقهاء الحنفية ليسأل إذا وقع في مسألة, ليسأل من يعلم من فقهاء السنة لأجل أنه, لأجل أنه يحتاج إليه في عمله هو, فيما يحتاج إليه مما يعمل.
4 حماد بن أبى سليمان رواية إبراهيم النخعى ويكنى بأبى اسماعيل مولى إبراهيم بن أبى موسى الأشعري كان أستاذا لأبى حنيفة إذ درس عليه ثمانى عشرة سنة.
5 قال الشافعي لبيان فضل هذا الإمام الكبير: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة", وقال عنه النضر بن شميل: "كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض بقوله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".