لا يجوز لطالب العلم الشرعي أن يميل عن كتب الأثر ويوليّها ظهره3 , لينهل من مناهل أصحاب الرأي و القياس نهلا يساير به هواه ويخالف به الأثر, ومن فقهاء الرأي على سبيل المثال لا الحصر فقيه العراق إبراهيم بن يزيد النخعي وأبي حنيفة النعمان وحماد بن أبي سليمان4 وغيرهم من فقهاء المدرسة الكوفية, بل ومن أمثال التابعي ربيعة الرأي المدني شيخ مالك بن آنس, فضلا عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم و محمد بن الحسن الشيباني, وهما من تلاميذة أبي حنيفة , فهؤلاء جميعا ممن اعتمدوا في الأحكام على الأقيسة والقواعد العامة, ففرعوا الأحكام الشرعية على الأقيسة والقواعد وقدموها على الآثار الصحيحة. ومن مذهب هؤلاء جعل القياس أصحّ من الحديث, وجعل القاعدة قطعية الدلالة, و يرفضون حديث الآحاد رفضا واضحا, كما أنهم يرفضون أن يستدلوا بالحديث المتصل والمرسل مراعاة منهم للعام و تقديمه على الخاص, وهذا الأصل الأخير لا شك أنه خلاف ما اجتمعت عليه المذاهب الفقهية المشهورة والغير مشهورة, من مالكية وشافعية وحنبلية و أوزعية وثورية. ومن أصولهم أيضا تقديم المراسيل وجعلها أقوى من الأحاديث المسندة, كمراسيل أبي العالية ومراسيل التابعين, بل إنهم ليقدمون الحديث المرسل على الحديث المسند ويأخذون به حين يجتمعان عندهم في المسألة الواحدة.
يقول أبو حنيفة كاشفا أصول مذهبه "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا" ومع هذا الكلام فقد اشتهر رحمه الله بالإكثار من القياس, لا إهمالا منه للأحاديث والآثار, أو لقلة بضاعته فيها, لكنه كان يشترط في قبول الحديث شروطا مشددة مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما حمله على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى يواجه النوازل والمشكلات المتجددة.
وهذا وقد كان رحمه الله 5 يفترض المسائل المختلفة ويدرسها من عدة جوانب, ثم يستنبط لها أحكامها, وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرض المسائل, وقد كان أبا حنيفة أول من استحدث هذا النوع من الفقه, بل وقد أكثر منه أيما إكثار, حتى قيل أنه وضع لستين ألف مسألة أحكامها.
ومن الجدير بالذكر هنا, أنه لا يجوز لنا أن نتجاهل ما يخالف الجمهور فضلا عن أقوال السلف والخلف المشهورة, لاستحساننا له بالعقل بوضع علة افتراضية تارة, أو بحذف أخرى تارة. تمطّقنا حلاوتها بوحي من هوانا على حساب شرع ربنا , فهذا مما لا يقول به العقلاء , وهو أقرب من شذوذ المجتهدين منه من سماحة الإسلام, بل إنني لا أراه من الاجتهاد في شيء, وهو غير وارد لعلل واضحة , ومثله لن يكون لصداه ما تحمد عقباه.
و أهل الرأي هم أصحاب الفكر بالمصطلح المعاصر, و قد ذم علماء السلف كتب هؤلاء في الحاضر أكثر منه من الماضي, لكثرة ما شملته من تفريعات واختلافات فيما بين بعضها البعض, وحقَّ لهم ذلك والله , خاصة وأن ما يسمى بالفكر الإسلامي في عصرنا ظاهرة جديدة , لم تقم في يوم من الأيام مقام العلم الشرعي, وصلتها به اليوم صلة محدودة, لا ترفعها لهذه المنزلة بالرغم من ظلم بعض المفكرين لأنفسهم وللعلماء الربانيين بالتالي, حين نصبوا أنفسهم للفتيا, وعلى أي فالفكر المنسوب للإسلام ليس مصدرا معصوما ولا وحيا من وحي لله لنبيه, يشرع الاستناد إليه في استنباط الأحكام الشرعية, وهذا ليس معناه أنني أنكر القياس كمنكريه وليس معناه أيضا أنني أنكر أهمية ما وافق من الفكر شرع الإسلام, كما أن كلامي فيما سبق ليس معناه أنني أطعن في فقهاء المذهب الحنفي طعن الرويبضة والمتمعلمين في الأفذاذ, ولكن قصدي أن يقس الفقيه إذ دعت الضرورة للقياس, وأن لا يتجرأ على ذلك من هو أجهل من حمار أهله, ممن يعرفون باسم المثقفين و المفكرين.
¥