1 - قوله تعالى: (مالك يوم الدين) (الفاتحة: 4)، فيه قراءتان متواترتان صحيحتان. القراءة الأولى: (مالك) بالألف بعد الميم، وهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، والقراءة الأخرى: (مَلِك) بغير ألف، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر وحمزة وأبي جعفر (17). فهذان الوجهان يعتبران من الأحرف السبعة التي نزلت تخفيفاً على الأمة، وبلغت هنا حرفين.
2 - قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) (الإسراء: 23)، فيه ثلاثة أوجه متواترة صحيحة، وهي: الوجه الأول: تشديد الفاء مع كسرها منونة (أفٍّ). وهي رواية نافع، وحفص عن عاصم، وأبي جعفر. والوجه الثاني: فتح الفاء من غير تنوين تخفيفاً (أفَّ)، وهي قراءة ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب. والوجه الثالث: كسر الفاء من غير تنوين (أفِّ)، وهي قراءة باقي العشرة (18). ففي هذا المثال تعتبر الأوجه الثلاثة من جملة الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وبلغت هنا ثلاثة أحرف.
الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف (19):
يمكن تلمس الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف بالنظر في الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في معناها، وبما تتضمنه من اختلاف أوجه القراءة على النحو التالي:
1 - تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين؛ فقد كانت العرب قبائل متعددة، وكان بينها اختلاف وتباين في اللهجات واللغات وطريقة الأداء، فلو ألزمت الأمة بكيفية واحدة من كيفيات القراءة لشقّ ذلك على مجموع الأمة، وإن كان يخدم بعضها (20).وهو تحقيق لقول الله عز وجل: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر) (القمر: 17).
2 - إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه، فتقَلُّبُ الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات فيه زيادة في المعنى، وفيه دلالة على الأحكام التي يستنبطها الفقهاء.
3 - تعدّ هذه الأحرف من خصائص هذه الأمة، ومن المناقب التي امتازت بها عن غيرها من الأمم؛ لأن كتب الأمم السابقة كانت تنزل على وجه واحد، وإنه من أعظم الخصائص لهذه الأمة أن الله عز وجل تكفّل بحفظ كتابها، وهو على خلاف كتب الأمم السابقة، فقد وكل الله تعالى حفظها لهم فحرّفوها وضيّعوها.
ويترتب عليه: أن الله تعالى تكفّل بحفظ سائر الأحرف القرآنية التي أنزلها؛ لأن كل حرف منها بمنزلة الآية فضياع شيء منها واندثاره يعني أن بعض أبعاض القرآن ضاعت، أو اندثرت. وهذا يتنافى مع مقتضى الحفظ الرباني للقرآن (21).
كما أن في اختلاف القراءات نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية؛ إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل (22).
4 - أن الأحرف السبعة حفظت لغة العرب من الضياع والاندثار، فقد تضمنت خلاصة ما في لغات القبائل العربية من فصيح وأفصح (23).
5 - أن في الأحرف السبعة برهاناً واضحاً ودلالة قاطعة على صدق القرآن، فمع كثرة وجوه الاختلاف والتنوع لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضاً، ويبين بعضه بعضاً، وبعضه يشهد لبعض على نمط واحد، وأسلوب واحد، وهذا دليل قاطع على أنه من عند الله عز وجل نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
6 - أن نزول القرآن على سبعة أحرف فيه بيان لفضل الأمة المحمدية بتلقيها كتاب ربها هذا التلقي، والاعتناء به هذه العناية، وفيه إعظام لأجور الأمة المحمدية، ذلك أنهم يفرغون جهدهم في حفظ القرآن الكريم، وتتبع معانيه، واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ من ألفاظ الأحرف السبعة، وإنعامهم النظر في الكشف عن التوجيه والتعليل والتخريج للروايات القرآنية، وبيان وجهها في العربية، وكشف وجه الفصاحة فيها، ولا ريب في أن هذه أجور عظيمة لهذه الأمة في خدمة كتاب الله عز وجل، ومن ناحية أخرى فإن انشغال أبناء الأمة الإسلامية في تدارس وحفظ القرآن والتمييز بين متشابهاته أمر مقصود ليبقى كل حافظ على اتصال بالقرآن الكريم وتعاهدٍ له، وكذا يقال بالنسبة للعناية بقراءاته وتتبعها وبيان وجوهها، فإن ذلك يؤدي إلى انشغال الأمة بتعلم القرآن وتعليمه وبذلك يستمر تعلقهم به قراءة وتدبراً وعملاً.
¥