ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته. وقد روي حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فضل الله القرآن. ورحمته أن جعلكم من أهله (يعني أن هداكم إلى اتباعه). ومثله عن أبي سعيد الخدْري والبراءِ موقوفاً، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجملة: {هو خير مما يجمعون} مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين."
قال القشيري:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
القرآن شفاءٌ من داء الجهل للعلماء، وشفاءٌ من داء الشِّرْكِ للمؤمنين، وشفاءٌ من داء النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكُتْبُكَ حَوْلِي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ
قوله: {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً}: الخطاب خطابٌ واحد، الكتابُ كتابٌ واحد، ولكنه لقوم رحمةٌ وشفاء، ولقوم سخطٌ وشقاء، قومٌ أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشي على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء."
قال ابن عجيبة في قوله تعالي: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)
قلت: (وقال الرسول): عطف على: (وقال الذين لا يرجون. .)، وما بينهما: اعتراض؛ لبيان قبح ما قالوا، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب.
يقول الحق جل جلاله: {وقال الرسولُ}؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده بعنوان الرسالة؛ للرد في نحورهم، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً في رسالته صلى الله عليه وسلم، أي: قال، إثر ما شاهد منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان، شاكياً إلى ربه - عز وجل: - {يا ربِّ إِن قومي}، يعني: قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع، {اتخذوا هذا القرآنَ}، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب، {مهجوراً} أي: متروكاً بالكلية، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده، وهو من الهجران، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن؛ لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّم القُرْآن؛ فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ، يَقُولُ: يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ».
وقيل: هو من هجر؛ إذا هذى، أي: قالوا فيه أقاويل باطلة، كالسحر، ونحوه، أو: بأن هجروا فيه إذا سمعوه، كقولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]؛ أي: مهجوراً فيه.
وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى، فإن الأنبياء - عليهم السلام - إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب، ولم يُنظروا."
قال ابن بطال في شرح حديث:": عُثْمَان عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
قَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَذَاكَ الَّذِى أَقْعَدَنِى مَقْعَدِى هَذَا. وَقَالَ مرة: «إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
(1) /45 - وفيه: سَهْل بْنِ سَعْد، أن امْرَأَةٌ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا ... إلى قوله: «قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
قال المؤلف: حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تعلم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم دل ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا ما دام كل من علمه تاليًا. وحديث سهل إنما ذكره فى هذا الباب؛ لأنه زوجه المرآة لحرمة القرآن.
¥