الشرقي.
ومن أراد الإحاطة بذلك فعليه بكتابنا غاية النهاية في أسماء رجال القراءات أويى الرواية والدراية" ().
ثم إن الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) جمع ما انتهى إليه من سبقه في مصنفاته المنيفة، ويأتي في مقدمتها الكتاب المذكور غاية النهاية وكتابه النشر في القراءات العشر ومنظومته طيبة النشر، ومن ثم عكف الشيوخ عليها تأليفا وإقراء، فاشتهر علم التحريرات الذي يعنى بعزو أوجه القراءات إلى طرقها ومصنفاتها، في دقة متناهية مع بيان الجائز منها والممنوع حال الإقراء، وآخر ما انتهى إليه هذا العلم تحقيقا وتأليفا وإقراء هو الإمام محمد بن أحمد المتولي (ت 13 13هـ) الملقب بابن الجزري الصغير، إذ عليه مدار الإقراء وبه تلتقي جل أسانيد القراء، فهو بجدارة إمام مدرسة القراءات في العصر الحديث ().
ولئن استمر العمل في تحرير القراءات والحكم عليها بعد ابن الجزري فإنه لن ينقطع بالمتولي، وهو مجال رحب للقراء والباحثين.
أهمية الحكم على القراءات
القراءات ميراث خالد اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، وعلم القراءات علم جليل، له من الرواية ذروة سنامها، ومن الدراية صافي دررها، وإحكام مبانيها والتبحر في مقاصدها والغوص في معانيها بحر لا ساحل له وغور لا قاع له.
وعلم القراءات ليس له حد ينتهي إليه، فمجالاته عديدة وفروعه متشعبة، وطرق أسانيده لا تكاد تستقصى، ومعاني وجوه القراءات لا تكاد تنقضي، فكلما أنعم الباحث النظر في تصاريفها تجددت معانيها في حلل أبهى.
وتجيء مكانة الحكم على القراءات في أولويات القيم العلمية لهذا النوع من العلوم الشرعية.
قال الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) في سياق تعداد فوائد علم القراءات:" ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظةٍٍ لفظةٍ، والكشف عن صِيغةٍ صِيغةٍ، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا، ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يُوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم " ().
وتشتمل الأهمية العلمية للحكم على القراءات على الجوانب العقدية والفقهية.
أما الجانب العقدي:
فإن ما قُطع على صحته يكفر من جحده لأنه من القرآن، وكل قراءة ثبتت على هذا النحو فهي مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، كلاهما حق يجب الإيمان بهما والعمل بهما، وسواء كانتا قراءتين أم أكثر، وأما ما لم يقطع على صحته فإنه لا يكفر من جحده، لأن ذلك من موارد الاجتهاد التي لا يلحق النافي ولا المثبت فيها تكفير ولا فسق، والأولى أن لا يُقدم على الجزم بردّ قرآنيته، وأما ما لم يثبت نقله ألبته أو جاء من غير ثقة فلا يقبل أصلا ().
وأما الجانب الفقهي:
فهو منبثق من الجانب العقدي، إذ ما قطع عليه من القراءات بكونه قرآنا جازت القراءة به في الصلاة وخارجها، وما لم يقطع بصحته فقد اختُلف فيه ().
والقراءة الصحيحة المقروء بها لا خلاف في الاحتجاج بها، والأظهر أن الشاذ من القراءات إذا صح نقله فإنه يحتج به في الأحكام وإذا لم يصح نقله فلا يجوز الاستدلال به في الأحكام ().
وينبغي أن يحمل ذلك على ما جاء في التفسير واللغة أيضا، فلا يُستند فيها إلا على قراءة صحيحة ولو كانت منقولة نقلا آحادا، كما أن القراءة إذا ثبتت وجب قبولها وعدم ردها ولو أباها بعض النحويين ().
حقا فدراسة القراءات والحكم عليها ذات أهمية فائقة، وتبرز هذه الأهمية في سائر فروع القراءات ومجالاتها النقلية والعقلية، ولا سيما في معايير قبول القراءات واختيارها، وفي مقدمتها أركان قبول القراءة السالفة الذكر.
ولا تزال القيمة العلمية في ذلك ذات أهمية فائقة، وبخاصة في القراءات التي لا يقرأ بها الآن، وأكثرها يذكر في الكتب غير معزو بَلْهْ بيان نوعها ودرجتها، وربما أُخذ بها في الأحكام الفقهية والمعاني التفسيرية والقواعد اللغوية وغيرها، وإذا اتضح أن ما كان كذلك من القراءات لا يحتج به إلا إذا كان بنقل صحيح فإن البحث فيها من أولى المهمات.
¥