وهذا الكتاب بمثابة النثر للطيبة والتهذيب للنشر، وذلك أن ابن الجزري لم يذكر في طيبته مما أورده في النشر إلا ما كان معمولا به عند علماء الأداء، ولا يخفى ما في النشر من كثرة طرقه وتشعبها وما في الطيبة من صعوبة من جهة نظمها ورموزها، فالخلاصة أن إتحاف فضلاء البشر من أيسر مصادر هذا النوع وأحسنها عرضاً وترتيباً، وهو من الكتب الأساسية في الحكم على القراءات، ومعرفة ما يقرأ به منها، فهو كما قيل:" كل الصيد في جوف الفَرا " ().
أما المصادر التي تضمنت القراءات التي توفرت فيها شروط الصحة إلا أنه انقطع إسنادها من جهة المشافهة بها فهي كثيرة، ولا يقرأ بشيء منها الآن إلا فيما اتصل إسناده على وجه المشافهة مما تضمنته المصادر السابقة وعلى رأسها كتاب النشر في القراءات العشر الذي حوى زهاء سبعين مصدرا من أمهات كتب القراءات ().
وأشهر المصادر التي في هذا النوع السبعة للإمام ابن مجاهد (ت 324 هـ) فهذا الكتاب مع شهرته إلا أنه قد انقطع العمل ببعض رواياته وأوجه قراءاته مشافهة ()، وأمثاله كثير ().
فما وجد من أوجه القراءات في هذه الكتب وثبت أنه لا يُقْرأ به الآن فإنه يحكم عليه بالشذوذ لفقده شرط اتصال السند مشافهة، وهو قليل، لأن الغالب من تلك المصادر قد تضمنه كتاب النشر في القراءات العشر أو وافقه.
وأما المصادر التي تضمنت القراءات دون مراعاة لشروط الصحة، فقد نص عليها ابن الجزري (ت 833 هـ) في قوله رحمه الله: " ومنهم من ذكر ما وصل إليه من القراءات، كسبط الخياط، وأبي معشر في الجامع، وأبي القاسم الهُذلي، وأبي الكرم الشَّهْرزوري، وأبي علي المالكي، وابن فارس، وأبي علي الأهوازي، وغيرهم، فهؤلاء وأمثالهم لم يشترطوا شيئاً، وإنما ذكروا ما وصل إليهم، فيرجع إلى كتاب مقتدى ومقرئ مقلد" ().
وهذا النص يشير إلى أن المصادر من هذا النوع اشتملت على المتواتر والشاذ، فما وافق المصادر المعتبرة المقروء بها كان متواترا، وما خرج عنها حكم عليها بالشذوذ.
وعبارة ابن الجزري: " أو مقرئ مقلّد " تشير إلى أن الاقتصار في الحكم على كتاب " مقتدى" غير كاف، بل لابد أن ينضم إليه ما عليه العمل عند قراء كل عصر.
وأما المصادر التي تضمنت القراءات الشاذة فكمختصر شواذّ ابن خالويه (ت 370 هـ) والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لابن جني (ت 392 هـ) والتقريب والبيان في معرفة شواذّ القرآن للصفراوي (ت 636 هـ) وشواذ القرآن واختلاف المصاحف للكرماني، وغيرها، فهذه الكتب وأمثالها أصل مادتها القراءات الشاذة، فما حوته من القراءات حكم عليها بالشذوذ، إلا أن يكون الوجه من القراءة مستعملا في القراءات المتواتر ()، فما كان كذلك فهو معدود في المتواتر، وإن نسب في تلك المصادر إلى غير القراء العشرة المشهورين، لأن العبرة باستيفاء الشروط وليس بمن تنسب إليهم القراءة، على أنها عند الاستقراء لا تخرج عن الأئمة العشرة كما سبق بيانه.
الحكم على القراءة من خلال دراستها
لقد حظيت حروف القرآن العظيم على اختلاف قراءاته بنقل العلماء، ولكن إن فات شيء فهو نزر يسير، وأما أكثره وجملته فمنقول محكي عنهم، فجزاهم الله عن حفظهم الحروف والسنة أفضل الجزاء وأكرمه ().
وهذه الحروف منثورة في كتب القراءات المتخصصة وغيرها، أما كتب القراءات فقد سبق الحديث عنها آنفا، وأما الكتب الأخرى فلا شك أن ما اشتملت عليه مما خرج عن القراءات المتواترة أنه من الشاذّ.
وإذا تأصّل أنه لا تبنى الأحكام الفقهية والمعاني التفسيرية إلا على ما ثبت فلا جرم أن معرفة درجتها من الأهمية بمكان، وذلك أن الشذوذ في القراءات لا يقتضي الضعف، وإنما يمنع من القراءة بها فحسب.
وتقوم دراسة تلك القراءات على الاعتبار بأقوال أئمة القراء والعلماء في أسانيد الطرق والروايات ووجوه القراءات، وتشكل هذه الأقوال والنصوص مادة غنية تساعد الباحث على معرفة درجة القراءة، وينبغي عند الحاجة إلى الرجوع إليها أن يراعى ما يلي:
¥