ثم الرواية الأصح وهي قوله " غير مجهول " لا يليق حملها على اللفظ لأنها خرجت جوابا عن مسؤول به وهو اللفظ لمسؤول عنه وهو الكيف فلا يكون المسؤول به نفسه جوابا وإلا كان أقرب إلى اللغو وهذا ليس من طبيعة الأجوبة عادة، فضلا عن الأجوبة العلمية، فضلا عن أجوبة كبار العلماء.
فحمله عليه خلاف الطبيعي وخلاف الأصل.
ولو كان لفظ الاستواء (مجرد اللفظ) هو المعْنِي في جواب مالك بقوله: " غير مجهول " كما يدعي المخالف:
ـ لما عبر مالك بهذا التعبير ولقال مالك مثلا: " الاستواء مذكور " أو نحو هذا، وما احتاج إلى أسلوب النفي " غير مجهول "! الذي يلجأ إليه من بحاجة إلى تقرير مراد فيه نوع بعد
ـ وما احتاج لنفي ما هو منتف اتفاقا وهو الجهل باللفظ وقد جاء في نص السؤال
ـ وما احتاج مالك لنفي ما لا معنى لنفيه!!
فقوله: " غير مجهول " ظاهره: أن المقصود بهذا أمر معروف وإن لم يُذكر ولم يفصح عنه، لكونه معروفا وهذا ممتنع في مجرد اللفظ
ورواية: " سألت عن غير مجهول " لا تحتمل ذلك التكلف لأنها بينت أن الغير مجهول في عبارة مالك ليس مجرد لفظ الاستواء لقوله: " سألتَ " وبالاتفاق السائل لم يسأل عن مجرد اللفظ!
والجدير بالذكر ختاما ما يلي:
ـ أننا لم نختلف مع عامة مخالفينا في صحة الأثر إلا من شذ منهم وهذا الطرف الشاذ يعكس لك ما يخفيه بعضهم من الشعور بأن معناه ضدهم لكنه يخفيه
ـ كما أننا لم نختلف في قوله: " والكيف مجهول أو غير معقول " وأنه يدل على تفويضه للكيف
ـ كما أننا لا نختلف في أن مالكا لم يتعرض في الأثر لتفويض شيء آخر إلا الكيف
ـ وإنما خلافنا يكاد ينحصر في قوله: " الإستواء غير مجهول " أو الاستواء معلوم " أو الإستواء معقول "
وأظن أن الصواب في عبارة مالك واضح ظاهر لا يحتاج إلى تحكم وتكلف ومعَنا فيما نقول به ظاهر لفظ مالك نفسه، واعتراف من علمائهم وروايات بالمعنى وماذا يطلبون أكثر من هذا؟
ـ الإمام إسحاق بن راهويه من كبار أئمة السنة:
قال أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ قَالَ:
وَفِيمَا أَجَازَنِي جَدِّي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ:
إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ مِنْ كِتَابِهِ بِصِفَاتٍ اسْتَغْنَى الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَنْ أَنْ يَصِفُوهُ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَجَلَّهُ فِي كِتَابِهِ , فَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى إرَادَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك} وَقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} , {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} , وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}. وَقَالَ: {خَلَقْت بِيَدَيَّ} وَقَالَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَكُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِمَّا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ , وَمَا لَمْ نَذْكُرْ فَهُوَ كَمَا ذُكِرَ.
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِبَادَ الِاسْتِسْلَامُ لِذَلِكَ وَالتَّعَبُّدُ لَا نُزِيلُ صِفَةً مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَ الرَّسُولُ عَنْ جِهَتِهِ لَا بِكَلَامٍ وَلَا بِإِرَادَةٍ , وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ الْأَدَاءُ وَيُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُهُ , وَلَا يَعْقِلُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ تِلْكَ الصِّفَاتِ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , فَأَمَّا أَنْ يُدْرِكَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ مَعْنَى تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا وَصَفَ مِنْ صِفَاتِهِ قَدْرَ مَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ
¥