* فَائِدَةٌ 35: مِن أجمع الآياتِ التي اجتثَّت الشِّركَ مِن أصُولِه قولُ اللهِ تعالَى: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)؛ فإنَّ هذه الآية دلَّت على إبطالِ الشِّركِ من وجوهٍ أربعةٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أنَّ اللهَ نفَى الْمُلْكَ عن غيرِه؛ فليسَ لغيرِه مما يُؤلَّه مِن الأوثانِ والأصنَامِ والأشجارِ والأحجارِ مُلْكٌ على وجْهِ الِاستقْلَال؛ وإنَّما الْمُلْكُ كلُّه للهِ الواحدِ القهَّار؛ كما قال تعالى: (تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
وقد نفَى اللهُ عنهم أقلَّ الْمُلْكِ بقولِه: (وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)، والقِطْمِيرُ في قولِ جُمْهورِ أهل العِلْمِ بالتَّفْسِيرِ كابْنِ عَبَّاسٍ وقَتَادَةَ ومُجَاهِدٍ: هي اللُّفافةُ التِي تكُونُ على نواةِ التَّمْر أو الرُّطَب.
الْوَجْهُ الثَّانِي: بيانُ أنَّ هذه الآيةَ مِنَ الأصنَامِ والأوثَانِ والأحجَارِ لا تسْمَع دُعاءَ مَن يدعُوهَا؛ وإذا كانت كذلكَ فهي غيرُ جَديرةٍ بأن تكُون مُؤَلَّهةً معظَّمة.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: نفيُ الاستجابَةِ عنهَا ولو أمكَنَ السَّماعُ؛ فلو ظُنَّ أنَّ هذه الآلهةَ تسمَعُ، أو وقَع ذلك مِن شيءٍ منهَا كمدَّعي الولايَةِ، فإنَّه لا يحصُلُ منهم اسْتِجَابةٌ لداعِيهِم؛ لأنَّ الأمْرَ كلَّه للهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أنَّ هذه الآلهةَ الْمُعظَّمةَ يَنْقلِبُ وُدُّها يومَ القيامةِ عِداءً؛ بأن تَكْفُر بشِرْكِ مَن أشركَ بها.
* وهذه الآية من سُورةِ فاطِرٍ، تُشْبهُ قولَ الله تعالى في سورةِ الأَحْقَافِ: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ).
* فَائِدَةٌ 36: التَّعبيرُ بخِطاب الشَّرعِ أَوْلَى وأعظمُ من خِطَاب غيرِه؛ كما بيَّنه ابْنُ الْقَيِّمِ في آخرِ كتَابِه: إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ.
* فَائِدَةٌ 37: الألْفاظُ المنقُولةُ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم في مَرتبَةِ الدُّعاءِ مع العبَادةِ: خَمْسَةُ أحادِيثَ:
1 – (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ).
2 – (الدُّعَاءُ هِيَ الْعِبَادَةُ).
3 – (الدُّعَاءُ أَشْرَفُ الْعِبَادَةِ).
4 – (الدُّعَاءُ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ).
5 – (الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ).
وهذه الأحادِيث لا يَثْبُتُ منها شَيءٌ إلَّا الأولُ.
* فَائِدَةٌ 38: لا يُقال: (وَفِي لَفْظٍ) (فِي رِوَايَةٍ)؛ إلا إذا كان هذا اللَّفظُ والروايةُ بعضَ الحديثِ المتقدِّمِ؛ والعُدولُ عن هذَا غلَطٌ.
* فَائِدَةٌ 39: دلَّ قولُ اللهِ تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) على أنَّ الدُّعاءَ عبادةٌ من أربعةِ وجوهٍ:
1 – الأمْرُ بهِ (ادْعُونِي)؛ وكلُّ ما أمَرَ اللهُ به فهو عبادَةٌ.
2 – الوَعْدُ باستِجابَةِ وعْدِ الدَّاعينَ (أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؛ ولا تكُونُ الاستجَابةُ إلَّا في مَرْضيٍّ عندَ الله محبُوبٍ له، وكلُّ ما أحبَّهُ الله ورَضِيَه فهُو عِبادةٌ.
3 – التَّصْرِيحُ بذلكَ في قولِه: (عَنْ عِبَادَتِي).
4 – الوَعِيدُ الشَّديدُ في حقِّ مَن عدَلَ عن عبَادةِ الرَّبِّ جلَّ وعلَا واستَكْبَر، بأنَّ الله يُدخِلُه جهنَّمَ دَاخرًا أي: حَقِيرًا.
* فَائِدَةٌ 40: يُطلَقُ الدُّعاء في الشَّرعِ على مَعْنَيَينِ اثنَين:
1 – مَعْنًى عَامٌّ: وهو امتِثالُ خِطابِ الشَّرعِ حُبًّا للهِ وذُلًّا، وهو بهذا الْمَعْنَى يكونُ شاملًا للعبادَةِ كلِّها.
2 – مَعْنًى خَاصٌّ: وهو طلَبُ العبدِ ربَّهُ حُصولَ ما ينْفَعُه ودَوامَه، أو دَفْعَ ما يَضرُّه ورَفْعَه؛ وهو الذِي يُسمِّيه أهلُ العلمِ: دُعاءَ الطَّلَبِ.
* فَائِدَةٌ 41: مِن صُوَرِ الشِّرك في الدُّعاء: أن يَدْعُوَ العبدُ حاضِرًا لا يَقدِر على ذلكَ الشَّيءِ الذي يدعُوهُ فيه؛ لأنَّه مِن خصَائص الرَّبِّ جلَّ وعلا، أو يدعُوَ غائبًا أو ميِّتًا، ويَعتقِد أنَّه ينفَعُ مَن دَعَاهُ أو يضُرُّه؛ كلُّ هذا مِن الشِّرك باللهِ تعالَى.
كما وقَع مِن أهلِ الجاهليَّةِ الأُولَى، الذِين كانُوا يدعُون الأصنامَ ويزعُمُون أنَّها تَشفَعُ لهم عندَ الله تعَالَى، وهي لا قُوَّةَ لها على نفْعِ غيرِها، فَضلًا عن أن تَنْفعَ غَيرَها، ولو أُريدَ بها مَكْرُوهٌ لا تَنْصُر نَفسَها فَضلًا أن تَنْصُر غيرَها؛ ولذلك كان ادِّعاؤُهم بأنَّ هذه الأصنامَ شُفَعاءُ لهم عندَ الله مِن أعظَمِ الجهلِ والضَّلال؛ فقد جَهِلُوا حقيقَةَ الشَّافعِ -الوثَنِ والصَّنمِ-، كما جهِلُوا حقيقَةَ المشفُوعِ إليه وهو الرَّبُّ تبارَكَ وتعَالَى.
¥