1 ـ إنّ الرواية بالمعنى موجودة في غير الحديث ممّا صحّح النحاة الاحتجاج به من المنثور والمنظور من كلام عرب الجاهلية، واعتمدوه لإثبات قواعدهم النحوية والصرفيّة، وقلّما يخلو كتاب في قواعد العربية من اختلاف آراء النحاة والمدارس النحوية بسبب اختلاف النقل والرواية في الحركات أو الكلمات أو العبارات اختلافاً يغيرّ المعنى والحكم الإعرابي، ومع ذلك الاختلاف فقد أدخلوا تلك
النصوص في منظومة الاحتجاج.
2 ـ وضع العلماء شروطاً مشدّدة لتجويز الرواية بالمعنى، ويأتي على رأسها إصابة المعنى وضبطه، والتي تتطلّب أن يكون الراوي عالماً عارفاً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينها، وإلا فلا يجوز له الرواية بالمعنى، بل يتعيّن عليه أن يؤدّي نفس اللفظ الذي سمعه، لا يخرم منه شيئاً، ولا يبدّل لفظاً بلفظ [36].
ولذلك قصروا جواز الرواية بالمعنى على فترة وجيزة لا تتعدّى رجال الصدر الأوّل دون غيرهم، حيث كانت اللغة سليمة والسلائق على سجيّتها لم يصبها فساد أو لحن [37].
وعليه فالرواة بالمعنى ـ على فرض تبديلهم الألفاظ ـ إنّما كانوا ممّن يسوغ الاحتجاج بكلامهم، وفق دائرة الاستشهاد اللغوي الزمانية، لأنّهم رووا ذلك قبل تغيير الألسنة وابتعاد الناس عن مصادر اللغة الأصلية.
3 ـ لا يمكن تعميم ظاهرة الرواية بالمعنى على كلّ مساحة الحديث النبوي الشريف، فقد وصل إلينا كثير من الأحاديث بمحكم ألفاظها ولم يطرأ عليها أدنى تغيير أو تبديل في كلماتها، ولا أي لحن أو تحريف في حركاتها وحروفها، كألفاظ القنوت والتحيّات والأذكار والأدعية في الأماكن والحالات الخاصّة وغيرها ممّا وقع التعبّد بخصوص ألفاظها وأمر الشارع بتلاوتها بعينها [38].
وكذلك ما أريد به لفظه الخاص من متون الأحاديث التي يقصد بها الاستدلال على كمال فصاحته صلّى الله عليه و آله ومحاسن بيانه، كالخطب التي تُلقى في مناسبات خاصّة، والأمثال النبويّة، التي تتضمّن أساليب إنشائية وبلاغية راقية، والكلمات القصار
المشتملة على محاسن البيان، والتي تتضمّن جوامع الحكم والنصائح والمواعظ البليغة التي تنتهي بسجع مطبوع يكشف عن مدى العناية بخصوص ألفاظها [39].
ومن الحديث ما دُوِّن في زمان النبي صلّى الله عليه و آله أو بعده بقليل رغم شروط المنع، ومن ذلك كتبه إلى العمّال والأمراء والملوك، وبعض كتب وصحف الصحابة المدوّنة من حديثه صلّى الله عليه و آله، فقد كان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه صحيفة من حديث الرسول صلّى الله عليه و آله [40]، وكان عبدالله بن عمرو يكثر من كتابة الحديث، وله صحيفة تُسمى الصحيفة الصادقة [42]، وكان أنس بن مالك يكتب الحديث بين يدي رسول الله صلّى الله عليه و آله [43]، ولجابر بن عبدالله الأنصاري صحيفة مشهورة من حديثه صلّى الله عليه و آله [44]، ولمعاذ بن جبل كتاب يحتوي على عدّة أحاديث [45]، وغيرهم كثير، كما أنّ من الحديث ما روي بطرق متعدّدة تصل إلى حدّ التواتر اللفظي، وقد تسالم فيه جميع الرواة على لفظٍ واحدٍ دون تبديلٍ أو تغيير.
وكلّ هذه الموارد ممّا لا تصدق عليه الرواية بالمعنى، ومنها يتبين أنّ تعميم حكم إخراج الحديث عن دائرة الاحتجاج لعلّة روايته بالمعنى ـ كما ادّعي ـ لا يمكن قبوله، ولا التصديق بنسبته إلى النحاة المتقدّمين، إذ من البعيد جدّاً عدم التفاتهم إلى فساد تلك العلّة، وعليه فلابدّ أن تكون الأسباب الحقيقيّة هي غير التحديث
بالمعنى، وسوف نتوفّر عليها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
ثانياً: كون الرواة غير عربٍ بالطبع، فأوقعهم باللحن من حيث لا يشعرون. ويرد عليه أنّ ذلك يُقال في رواة الشعر والنثر ممّن أكثر النحاة من الاحتجاج بمرويّاتهم، ومنهم حمّاد بن هرمز الديلمي ت 155 هـ، والمعروف بحماد الراوية، فقد كان أصله من الديلم [46]، وخلف بن حيّان الأحمر ت 180 هـ، وهو من موالي فرغانة، وقيل: أصله من خراسان [47].
¥