وفي "الاقتراح" للجلال السيوطي: "أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية. وفي "الكشاف" ما يقتضي تخصيص ذلك بغير أئمة اللغة ورواتها، فإنه استشهد على مسألة بقول أبي تمام الطائي. وأول الشعراء المحدثين بشار بن برد، وقد احتج سيبويه ببعض شعره تقرباً إليه، لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره، ذكره المرزباني وغيره. ونقل ثعلب عن الأصمعي أنه قال: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة وهو آخر الحجج".
وكذا عد ابن رشيق في "العمدة" طبقات الشعراء أربعاً، قال: هم جاهلي قديم، ومخضرم، وإسلامي، ومحدث. قال: ثم صار المحدثون طبقات أولى وثانية على التدرج هكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا.
وجعل الطبقات بعضهم ستاً، وقال: الرابعة المولدون، وهم من بعد المتقدمين كمن ذكر، والخامسة المحدثون، وهم من بعدهم كأبي تمام والبحتري، والسادسة المتأخرون، وهم من بعدهم كأبي الطيب المتنبي.
والجيد هو الأول، إذ ما بعد المتقدمين لا يجوز الاستدلال بكلامهم، فهم طبقة واحدة، ولافائدة في تقسيمهم.
وأما قائل الثاني فهو إما ربنا تبارك وتعالى، فكلامه -عز اسمه- أفصح كلام وأبلغه، ويجوزالاستشهاد بمتواتره وشاذه، كما بينه ابن جني في أول كتابه "المحتسب" وأجاد القول فيه؛ وإما بعض إحدى الطبقات الثلاث الأول من طبقات الشعراء التي قدمناها.
وأما الاستدلال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد جوزه ابن مالك وتبعه الشارح
المحقق في ذلك، وزاد عليه بالاحتجاج بكلام أهل البيت رضي الله عنهم. وقد منعه ابن الضائع وأبو حيان، وسندهما أمران:
أحدهما أن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رويت
بالمعنى.
وثانيهما أن أئمة النحو المتقدمين من المصرين لم يحتجوا بشيء منه.
ورد الأول -على تقدير تسليمه- بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوينه في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ. يصح الاحتجاج به، فلا فرق. على أن اليقين غير شرط، بل الظن كاف.
ورد الثاني بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به، والصواب جواز الاحتجاج بالحديث للنحوي في ضبط ألفاظه. ويلحق به ما روي عن الصحابة وأهل البيت، كما صنع الشارح المحقق.
وإن شئت تفصيل ما قيل في المنع والجواز، فاستمع لما ألقيه بإطناب دون إيجاز: قال أبوالحسن ابن الضائع في "شرح الجمل": "تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة -كسيبويه وغيره- الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب. قال: وابن خروف يستشهد بالحديث كثيراً، فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن، وإن كان يرى أن من قبله أغفل شيئاً وجب عليه استدراكه فليس كما رأى".
وقال أبو حيان في شرح "التسهيل": "قد أكثر "هذا" المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب. وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو، المستقرئين للأحكام من لسان العرب -كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفين-لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على ذلك المسلك المتأخرون من الفريقين، وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال:
إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما
¥