/ الوجه الثالث: وهو أنه سبحانه قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُلاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}. [الأعراف: 148] فلم يذكر فيما عابه به كونه ذا جسد؛ ولكن ذكر فيما عابه به {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}. [الأعراف: 148]، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبًاونقصًا لذكر ذلك.
فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها، على أن كون الشيء ذابدن عيبًا ونقصًا، وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفول، فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كماذكروه لكان حجة عليهم لا لهم.
الوجه الرابع: أن اللّه تعالى وصفه بكونه عجلًا جسدًا له خوار، ثم قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}. [الأعراف: 148]، وقال في السورة الأخرى: {فَكَذَلِكَأَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 87ـ89]، فلم يقتصر في وصفه على مجرد كونه جسدًا، بل وصفه بأن له خوارًا، وبين أنه لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا.
فالموجب لنقصه إما أن يكون مجموع الصفات أو بعضها، أو كل واحد منها؛ فإن كان المجموع لم يدل على أن نقصها واحدة نقص، وإن كان بعضها فليس كونه جسدًابأولى من كونه له خوار. وليس هذا وهذا بأولى من كونه مسلوب/ التكلم والقدرة علىالنفع والضر، وإن كان كل منهما؛ فمعلوم أنهم إنما ضلوا بخواره ونحو ذلك، واللّه ـتعالى ـ إنما احتج عليهم بعدم التكلم والقدرة على النفع والضر.
الوجه الخامس: أنه ليس في القرآن دلالة على أن كونه جسدًا وكونهله خوار صفة نقص، وإنما الذي دل عليه القرآن أن كونه لا يكلمهم ولا يقدر على نفعهموضرهم نقص، يبين ذلك: أن الخوار هو الصوت والإنسان الذي يصوت، ويقال: خار يخورالثور، وهو يكلم غيره، وقد يهديه السبيل.
واللّه ـ سبحانه ـ بين أن صفات العجل ناقصة عن صفات الإنسان، الذييكلم غيره ويهديه، فالعابد أكمل من المعبود، يبين هذا أنه لو كلمهم لكان أيضًامصوتًا، فلو كان ذكر الصوت لبيان نقصه لبطل الاستدلال بقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُلاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}. [الأعراف: 148] فإن تكليمه لهم لو كلمهم إنما كان يكون بصوت يسمعونه منه.
فعلم أن ذكر التصويت لم يكن لكونه صفة نقص، فكذلك ذكر الجسد.
وبالجملة، من ذكر أن القرآن دل على هذا وهذا هو العيب الذي عابه به، وجعله دليلًا على نفي إلهيته؛ فقد قال على القرآن ما لا يدل عليه؛ بل هو على نقيضهأدل.
/ الوجه السادس: أن اللّه ـ تعالى ـ ذكر عن الخليل صلى الله عليهوسلم أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَايُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 24]، وقال تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْإِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَاآبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72ـ74] فاحتج علىنفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدنوجسم، سواء كان حجرًا أو غيره.
فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيًا لذكره إبراهيم الخليل وغيره منالأنبياء ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ بل إنما احتجوا بمثل ما احتج اللّه به مننفي صفات الكمال عنها؛ كالتكلم والقدرة، والحركة وغير ذلك.
الوجه السابع: أن يقال: ما ذكره اللّه ـ تعالى ـ إما أن يكوندالًا على أن الإله ـ سبحانه ـ موصوف ببعض هذه الصفات؛ وإما ألا يدل. فإن لم يدلبطل ما ذكروه؛ وإن دل فهو يدل على إثبات صفات الكمال للّه تعالى، وهو التكليمللعباد، والسمع والبصر والقدرة، والنفع والضر.
وهذا يقتضى أن تكون الآيات دليلًا على إثبات الصفات، لا على نفيها، ونفاة الصفات إنما نفوها لزعمهم أن إثباتها يقتضى التجسيم، والتجسيد. فالآياتالتي احتجوا بها هي عليهم لا لهم.
¥