فإذا رغبتَ في أقربِ الطرق ِ إلى ذلكَ فاجتهدْ أن تكونَ مفكّراً منتقداً، وعليكَ بقراءةِ كتبِ المعاني قبلَ كتبِ الألفاظِ، وادرسْ ما تصلُ إليهِ يدكَ من كتبِ الاجتماعِ والفلسفةِ الأدبيةِ في لغةٍ أوربيةٍ أو فيما عرّبَ منها.
واصرف همّكَ من كتبِ الأدبِ العربي – بادىء ذي بدءٍ – إلى كتابِ كليلةَ ودمنة والأغاني ورسائلَ الجاحظِ وكتابَ الحيوان ِ والبيانِ والتبيين لهُ، وتفقّه في البلاغةِ بكتابِ " المثل ِ السائرِ "، وهذا الكتابُ وحدهُ يكفلَ لكَ ملكةً حسنة ً في الانتقادِ الأدبي، وقد كنتُ شديدَ الولعُ بهِ.
ثمّ عليكَ بحفظِ الكثيرِ من ألفاظِ كتابِ " نُجعةِ الرائدِ " لليازجي والألفاظِ الكتابيّةِ للهمذانيّ، وبالمطالعةِ في كتابِ " يتيمةِ الدهرِ " للثعالبيّ والعقدِ الفريدِ لابن عبدربه وكتابِ " زهرِ الآدابِ " الذي بهامشهِ.
وأشيرُ عليكَ بمجلّتينِ تُعنى بقراءتهما كل العنايةِ " المقتطف والبيان "، وحسبكَ " الجريدةُ من الصحفِ اليومية و " الصاعقة " من الأسبوعية، ثم حسبكَ ما أشرتُ عليكَ بهِ فإنّ فيهِ البلاغ كلّهُ، ولا تنسَ شرحَ ديوان ِ الحماسةِ وكتابَ نهجِ البلاغةِ فاحفظْ منهما كثيراً.
ورأسُ هذا الأمر ِ بل سرّ النجاح ِ فيهِ أن تكونَ صبوراً، وأن تعرفَ أن ما يستطيعهُ الرجلُ لا يستطيعهُ الطفلُ إلا متى صارَ رجلاً، وبعبارةٍ صريحةٍ إلا من انتظرَ سنواتٍ كثيرة.
فإن دأبتَ في القراءةِ والبحثِ، وأهملتَ أمرَ الزمن ِ – طالَ أو قصرَ – انتهى بكَ الزمنُ إلى يوم ٍ يكونُ تاريخاً لمجدكَ، وثواباً لجدّكَ.
والسلامُ عليكَ ورحمة ُ اللهِ.
الرافعي
3 رأيّهُ في الكتبِ التي وعدَ الناسَ بها
(انقطعَ حبلُ المراسلةِ بيني وبين الرافعي – رحمه الله – زهاءَ ثلاث سنين، كانت كالفترةِ التي انقطعَ فيها الوحيُ عن الرسول – صلواتُ الله عليهِ -، ثم ترادفتْ علي بعد ذلك رسائلهُ، وهذا هو أوّل كتابٍ منه بعد هذه الفترةِ):
طنطا في 21 يونيو سنة 1915
أيّها الأديبُ الفاضلُ
السلامُ عليكم ورحمة ُ اللهِ، وبعدُ،
فإنّي معتذرٌ إليكَ من تأخير ِ الرّدِ إلى الآن بالمرضِ الذي شغلني بنفسي منذ شهرينِ، فقد كددت رأسي طويلاً وآن لي أن أستريحَ قليلاً.
أمّا كتابكم فقد تلوتهُ مستبشراً بميلكم هذا الميلَ إلى الأدبِ، ويسرّني أن تستوعبوا ما تقرءونهُ حتى أتى لكم أن تستخرجوا أسماء الكتبِ التي سألتم عنها كالقرائحِ العربيةِ وغيرها، ومن أجل ذلك لا أرتابُ في أنّ لك يوماً – إن شاء اللهُ – وهو سبحانهُ المسئولُ أن يأخذَ بيدكم إلى القصدِ ممّا تطلبون.
وأمّا هذه الكتبُ التي وعدتُ النّاسَ بها فالنيّةُ معقودة ٌ عليها، وحسبكَ من جهتي أنا صحّة النيّةِ، ولكن ماذا أصنعُ والناسُ عندنا ما تعلمونَ تخاذلاً وتقصيراً وبخلاً بالدراهمِ القليلةِ ينفقونها على الأدبِ، وكيف لي أن أملأ الأسواقَ كتبي، ويدي فارغةٌ .... ؟.
لقد وضعتُ كتاباً صغيراً هذه الأيّام وهو " كتابُ المساكين " وأظنّكَ تُعجبُ به لو قرأتهُ، غيرَ أنّي لم أجد من يُعينني على طبعهِ فطويتهُ وكنتُ أوشكتُ أن أتمّهُ، وليسَ طبعهُ بالمُعجزِ، فإنّه لا يُنفقُ فيهِ أكثرُ من خمسة وعشرين جنيهاً!، ولكنّي لا أجدها الآن فأينَ هي؟!، بل أين من يقولُ هاهي؟!.
والجزءُ الثالثُ من التاريخِ لموعدكَ به بعد سنتين – إن شاءَ اللهُ – مع أنّي أكتبُ فيهِ أكثرَ من بضعة أشهر ٍ حتى يمثلَ للطبع ِ، ولكن العجزُ في التكاليفِ ... فدعني ونفسي إنّ الشرقَ لا يزالُ شرقاً.
سألتني عن قاموس ٍ عربي تشتريهِ فليسَ أحسنَ ولا أوفى من " لسان ِ العرب " فإن أعياكَ أن تجدَه لقلةِ نسخهِ فالتمس تاجَ العروس ِ وأظنّهُ كثيرَ الوجود ِ، وينبغي أن تجمعَ إليهِ " القاموسَ المحيطَ " للفيروزبادي " فإن التاجَ شرحٌ عليهِ، وضمّ إليهما " أساسَ البلاغةِ " للزمخشري فلا غنى لأديبٍ عنهُ وهو رخيصٌ كذلكَ.
واعذرني أن لا أطيلَ في الكتابةِ، فإن رأسي متألّمٌ، وقد تركتُ القلمَ حتى يرزقَ اللهُ العافيةَ بحولهِ وقوّتهِ.
والسلامُ عليكم ورحمة الله.
الداعي
مصطفى صادق الرافعي
4 – رأيهُ في طبع كتبهِ
¥