ولغة العرب إبَّان نزول القرآن لغة يقاس عليها ما قبلها وما بعدها من كلام العرب، فهي من أكبر الأدلة على أصول كثيرٍ من لغات المنطقة التي نُسبت إلى أقوام أو بلدان؛ كالكنعانيين أو الفينيقيين أو البابليين، أو الآشوريين أو الأكاديين أو الآراميين أو التدمريين أو النبطيين ... الخ من الألقاب التي اطلقت على أقوام عاشوا في شمال جزيرة العرب: عراقها وشامها، بل يتعدى إلى مصر وساحل البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد المغرب كما هي جغرافية العرب اليوم.
وقد قام جمع من الباحثين بهذا العمل، فبيَّنوا أصول لغات بعض هذه الأقوام بالقياس على عربية التنزيل، فبرزت أبحاثٌ فائقة في الجدَّة والعلمية الموضوعية، وإن كان الإغراق في مثل هذه البحوث لا يخلو من تكلف إلا أن ثبوت أصل المسألة كافٍ في التدليل عليها.
ونحن اليوم نرى كلام عامة العرب في جميع أقطارهم، فيظهر للدارس ارتباط كثير من العامي بأصوله الفصحى، وإن اختلف من حيث أداؤه أو تصريفه وخلوه من الإعراب، وذلك أمر واضح عند من يقرأ في البحوث التي تُعنى بردِّ العامِّي إلى الأصيل من كلام العرب.
والمقصود أن لغة العرب التي حُفِظت لنا اليوم دليل واضح على ارتباطها بأم اللغات، وارتباط غيرها بها، على أنها مرحلة من مراحل تطور اللغة الأم وتفرعها في محيط الاشتقاق.
والحق: إن دراسة تلك الروابط يعوزها كثيرٌ من فقه اللغات التي تحدثت بها تلك الشعوب قديمًا، ولقد كُتِب في ذلك كتابات كثيرة، لكن شاب كثيرًا منها ما ذكرت لك سابقًا، ومن أكبر ذلك الشَّوب أنهم اخترعوا مصطلح (السامية) ليطلقوه على شعوب منطقتنا العربية، وعلى لغاتها، فجعلوا السامية أصلا تتفرع منه لغات شمالية وجنوبية، وجعلوا منها: العربية والعبرية والحبشية والأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية ... الخ. وهذا التقسيم غير صحيح البتة، وقد نقده باحثون، وأظهروا زيفه وبطلان، وإن اغتر به آخرون أو رأى غيرهم أن لا أهمية تُذكر في هذا المصطلح، فساروا عليه (1).
* نظرة تحليلية لبعض المفردات الواردة في القرآن لأقوام عريقين في القِدم:
إذا جعلت اللغة المعيارية التي ارتضاها العلماء للقياس عليها، وكذا ما حُكي من لغات عربية استهجنوها؛ إذا جعلنا هذه اللغات (اللهجات) أصلاً نستفيد منه في تبيُّنِ مسار هذه اللغة وقِدمها (2)، فإننا سنجد ذلك واضحًا ساطعًا في أسماء نُقلت إلينا كان يتكلم بها أقوام يفصل بينهم وبين لغة العرب القرون الطويلة.
1 ـ نوح وقومه:
يقول الله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)
تأمَّل أسماء هذه الأصنام، ألا تظهر لك عربيتها واضحة بينة؟
أفي عروبة هذه الأسماء شكُّ؟ أكان قوم نوح سيسمون أصنامهم ـ التي هي أسماء رجال صالحين كانوا قبلهم ـ بغير لغتهم؟
ألا يدلك هذا على أنَّ قوم نوح كانوا يتكلمون العربية؟
لكن هذه العربية التي تكلموا بها لا يلزم أن تتفق مع اللغة المعيارية التي بين يديك اليوم، إذ قد تختلف في طريقة التصريف والإعراب وغيرها، لكن أصول الكلمات واحدٌ لا يتغير، أنها لغة الاشتقاق.
2 ـ عاد قوم هود
يقول تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) وقوم عاد لا خلاف في عروبتهم، ولفظ (عاد، وهود) واضح العروبة، وأصلهما من العَودِ والهَود.
3 ـ ثمود قوم صالح
قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ)، وقوم ثمود لا خلاف في عروبتهم، واسم نبيهم واضح العروبة، وهو من مادة (صلح)، وكذا اسم القبيلة من مادة (ثمد) والثمد: الماء القليل.
4 ـ مدين قوم شعيب
ولا خلاف في عروبتهم، ولا زال اسم مدين شاهدًا إلى اليوم، مما يدل على عروبته، واسم (شعيب) واضح العروبة، وهو من مادة شعب.
¥