وهذه الشعوب وأنبياؤها كانوا في جزيرة العرب ـ على خلاف في موطن نوح وقومه ـ وما ذكرته لك ـ مع قِلَّتِه ـ شاهد على اتصال لغة العرب المعيارية بهذه اللغات التي كانت قبلها، وأنها لا زالت تحتفظ بالاشتقاق من هذه اللغات القديمة، وانت على خُبر بما كان بين نوح وآدم من الزمن، وهو عشرة قرون، فانظرإلى أي زمن ارتقت لغة العرب من جهة الزمان، بل إنها لترقى إلى أكثر من هذا كما أشرت في مقالي (آدم في السماء).
هل في هذه النظرية هدم لباب العجمة الذي يعتمده النحويون واللغويون؟
فإن قلت: ألا ترى أن قولك هذا فيه إبطالٌ لباب العجمة الذي يذكره النحويون واللغويون، وأنك تركت ما ذكره بعض العلماء من حكاية العجمة لبعض هذه الأسماء؟
فالجواب: إني لا ألغي ذلك البتة؛ لأن قياس العجمة إنما هو بالنسبة للغة العربية إبان نزول القرآن، وهي اللغة المعيارية التي ارتضاها اللغويون وقاسوا عليها، فما كان خارجًا عن مقاييسها عدُّوه أعجميًا على التفصيل المعروف عندهم.
وإذا تأملت ما خرج عن هذه اللغة، وحُكِم بعجمته، فإنه لا يعدو الأمور الآتية:
1 ـ أن تكون أصوله عربية قد ماتت، فلم تُستخدم في لغة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم (اللغة المعيارية).
2 ـ أن تكون أصول الكلمة عربية، لكنها تحوَّرت ثمَّ رجعت إلى اللغة المعيارية بما وصلت إليه من تحوير، فصارت عجمتها من هذا الباب.
3 ـ أن تكون الكلمة قد وُلِدت في غير العربية، فتكون عجمتها ظاهرة بلا ريب.
وما أحكيه هنا هو في النوعين الأولين، فالقول بعجمة الألفاظ لا ينفي الأصل العربي لها، ولعلي أحكي لك مثالاً يدلك على رحلة الكلمة من العربية إلى التعجيم إلى رجوعها إلى العرب معجمة.
اسم (إسحاق) هو بمعنى (يضحك) أو قد يكون أحد مشتقاته (كالضاحك، وإن كان على المبالغة فهو الضحاك) لكن ما علاقة اسمه بمدلول الضحك؟
1 ـ أصل الاسم (يضحك) على زِنة الفعل، وأنت تعلم أن زنة الفعل مستعمل في أسماء عربية في اللغة المعيارية، مثل (يزيد).
2 ـ السين منقلبة عن الصاد المنقلبة عن الضاد (يسحق ــــ يصحق ــــ يضحق)
3 ـ القاف منقلبة عن الكاف (يضحق ــــ يضحك).
4 ـ الألف زائدة (يسحاق).
5 ـ قلبت الياء إلى همزة (إسحاق).
ولو أنِست بقوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) واعتبرته في هذه التسمية لما بعُد عنك الوصول إلى هذا المعنى، وإذا أضفت إلى ذلك ما تنبَّه إليه أصحاب (قاموس الكتاب المقدس ص: 66)، قالوا: ((إسحاق، ومعناه بالعبرية (يضحك)، وهو ابن إبراهيم وسارة ... )). وكذا أضاف هذا المعنى أصحاب (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص: 46) عند الحديث عن البشارة (تكوين: 17). وفي قولهم هذا إشارة إلى عربية هذا الاسم من حيث لا يعلمون.
وهذه الرحلة التي تَمُرُّ بها الكلمة ليست غريبة على من يقرأ في موضوع اللغات، ويتبين له ما يقع للكلمة من رحلة من لغة العرب حتى تعود إليها معجَّمة، ولا زلت أضرب بمثلين معاصرين مشهورين من الأسماء:
الأول: كرزاي، أصله: (قرضاي)، فحصل للقاف قلب إلى الكاف، وللضاد قلب إلى الزاي، وبعضهم يقلبها إلى الدال، وتجد هذا الاسم العربي الصريح في صحفنا بأحد الأسماء الثلاثة (قرضاي، كرزاي، قرداي) والاسم (قرضاي) هاجر إلى الغرب، ثمَّ رجع إلينا معجَّمًا بأحد لفظين (كرزاي) أو (قرداي)، وأصلهما ـ كما ترى ـ عربي صريح.
الثاني: مهاتير، أصله: (مُحاضِر)، وتراهم يجعلون الضمة فتحة، لجهلهم بأصل الاسم، والحاء قد قُلبت إلى (هاء)، والضاد قد قلبت إلى (تاء)، وزيدت كسرة الضاد لما قُلبت إلى (تاء) فصارت (ياءً)، كما ترى.
وتحليل الأسماء المتحوِّرة يحتاج إلى مبادئ ليتفق معي فيها القارئ، ويقبل ما أذكره له، لكني هنا ذكرت لك النتيجة فقط، وإلا فالأمر يرجع إلى (علم الصوتيات)، وذلك علم قَلَّ من يكتب فيه من المتخصصين مع أهميته البالغة في فهم قضايا مرتبطة بأصول اللغة.
* نظرة تحليلية لبعض الأسماء التي تسمَّى بها أقوام سابقون للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم:
¥