فعلى هذا نجد أن التدرج كان قائما في كل العصور، ولكن التدرج عند المتقدمين كان في المقدار الذي يحفظه المتعلم من الآيات، والتطبيق العملي لما احتوته الآيات من الأحكام، ولكن حين نشأ المتعلمون في ظل الاسلام، كان سلوكهم العملي يأخذونه من أهليهم ومجتمعهم الذي ربي على الاسلام، فصار التدرج ليس في العدد فقط، وانما كان في ضبط الألفاظ وتقويم اللسان على ذلك، إضافة إلى القدرة على الحفظ والاستيعاب.
والمنهاج في الكيفية تعددت اشكاله، منهم من كان يجيد القراءة والكتابة، فيعرض قراءته على المشايخ فييزيونه بعد تصويب ما كان يخطئ فيه، ومنهم من كان يتلقاه تلقيا - أي يلقنه تلقينا -، ومنهم من كان يكتفي بالسماع ويضبط مصحفه على ما يسمع، من ذلك ما حدث به خلف بن هشام الأسدي قالكان الكسائي إذا كان شعبان وضع له منبر فقرأ هو على الناس في كل يوم نصف سبع، يختم ختمتين في شبعان ... ) () وكان الناس يضبطون مصاحفهم على قراءته.
ومنهم من كان لا يكتفي بقراءته عليهم إذا كثر عليه الناس بل كان يطلب منهم ترديد ما قرأه عليهم لفظة لفظة، وهذا ما ذكره السيوطي عن ابن الجزري إذ يقول:
(يحكى أن الشيخ شمس الدين بن الجزري، لما قدم القاهرة وازدحمت عليه الخلق لم يتسع وقته لإقراء الجميع، فكان يقرأ عليهم الآية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته) (). ويظهر من هذا أن الترديد الجماعي هو استثناء لعلة كثرة الناس الذين يقرءون عليه، وضيق الوقت الذي لا يسمع له بإقراء كل على انفراد، والأصل لطالب القراءة أن يلقن القراءة ثم يعرض ما لقنه على شيخه فيسمع منه ويصحح له إلى أن يتقن القراءة فيجيزه بها. وبهذه الطريق اتقنوا القراءات وحفظوها في سن مبكرة، يقول سليم (سمعت حمزة يقول: أحكمت القراءة ولي خمس عشرة سنة) () وكثير غيره أتقن القراءة بهذه السن أو اقل من ذلك أو اكثر.
وتعليم القرآن للصبيان يكون عن طريق الاستظهارفالمنهج بطبيعته يتجه إلى التعليم اللفظي، ويعتمد على الذاكرة، وعلى الأخص إذا عرفنا أن القرآن وهو أهم المعلوم يجب حفظه بألفاظه دون تحريف أو تبديل، لهذا السبب كانت الطرق التعليمية التي أوصى بها القابسي - أبو الحسن علي بن محمد بن خلف الفقيه القيراني ت 433هـ - لا تخرج عن الطرق الموصلة إلى جودة الحفظ وعدم النسيان فيما يختص بالقرآن، وعنده أن طرق الحفظ ثلاث؛ التكرار، والميل، والفهم) ().
وهذه الأمور الثلاثة التي أكدها القابسي تثبت النصوص في صدور المتعلمين. إذ التكرار يرسخ الحفظ، والميل اليها يكون بالترغيب في الثواب الذي أعده الله لمعلمي القرآن ومتعلميه، والفهم لهذه الأحكام يثبتها أكثر باقترانها بالعمل، لأن الفهم يعين على التطبيق، فيكون ذلك سلوكا للمتعلم، وسجية له في قراءته وانطباعه على الصحيح.
فالحديث الشريف ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) هو الذي اقعد أبا عبد الرحمن السلمي أربعين سنة في مسجد الكوفة يعلم الناس القرآن.
والرغبة عند المعلم والمتعلم تكون أقوى وأفضل، خاصة إذا كانت عقيدة راسخة في النفوس، والقرآن الذي وحَّد اعتقاد العرب المسلمين أولا، ووحد السنتهم ثانيا، لقادر اليوم على علاج ألسنتهم من اللحن الذي طغى على عامتهم وخاصتهم.
وهذا المنهاج الذي اتبع في تعليم القرآن كأنه تطبيق للمقولة العربية الشهيرة التي سمعها الأحنف بن قيس التميمي من أحدهم (التعلم في الصغر كالنقش في الحجر).
وكان رد الأحنف عليه صحيحا أيضا إذ قال: (الكبير اكبر عقلا، ولكنه أشغل قلبا) ()
فتعليم العربية وتقويم اللسان يكون بإقراء القرآن وتلقينه للصبيان أولا، لأن الصبيان في هذه السن المبكرة قادرون على الاستظهار أو الحفظ، ومتى ثبتوا على ذلك الحفظ وتقدمت بهم السن اصبحوا قادرين على التحليل والفهم، وإدراك دقائق الأمور، فيكون تعلم العلوم العربية كالنحو والصرف والبلاغة ... ميسورا سهلا، لأن المتعلم الذي يقرأ القرآن ويحفظه أو يحفظ منه، ويضبط ما يحفظ ويقرأ، يطبع على اللفظ الصحيح، والاعراب الصحيح، ويكون له سجية لا تقبل الخطأ بسهولة، وهو يملك الامثلة الكثيرة على كل أمر من هذه العلوم وجزيئاتها.
وهجران هذا المنهج هو الذي أدى إلى الضعف العام الذي نراه بين الخاصة والعامة، والعلاج لهذا الضعف يكون بالرجوع إلى ذلك المنهج الذي اثبت نجاحه على مدى العصور السالفة، التي تخرج فيها فحول الشعراء والأدباء والفقهاء والقراء والمفسرون ... ، والافادة من هذا المنهج بما يوائم روح العصر، من استخدام الأجهزة الحديثة المتقدمة التي تعين على تثبيت تلك النصوص في أذهان المتعلمين، لتكون لهم الأساس المتين في تعلم العربية.
فخلاصة الموضوع والنتائج التي يؤدي اليها:
المنهج الذي اتبع في تعليم القرآن هو التلقي والعرض وتراعى في ذلك أمور أهمها:
التدرج ومراعاة الفروق الفردية بين طالبي القراءة، والتدرج يشمل عدد الآيات التي يحفظها كل يوم مع ضبط أحكام التجويد، إذ حساب المبتدي خلاف حساب المنتهي.
والتكرار المستمر لما يقرأ الطالب، لأن ترك القراءة يؤدي إلى النسيان، في حين التكرار يثبت ما تعلمه في صدره، ويصبح له سجية ملازمة في حفظه.
والرغبة الصادقة من المعلم والمتعلم في إقراء القرآن، لأنه عقيدة راسخة في النفوس لنيل الثواب والأجر المترتب على ذلك.
وحفظ القرآن ورسوخه في الأذهان يؤدي إلى امتلاك خزين كبير من صنوف الأمثلة لكل فروع العربية من نحو وصرف وبلاغة وأدب رفيع، ويسهل تعلمها واستقامة اللسان على ذلك.
والفهم والتطبيق العملي لما في القرآن يؤدي إلى السلوك المستقيم المنسجم مع ما تعلمه الطالب في حياته، وهذا يؤدي إلى الرضا الذي ترتاح له النفوس وتطمئن اليه الخواطر.
نشر هذا البحث في احد اعداد مجلة الحكمة