-لم تكن هم الباحثين مسلطة بالدرجة الأولى على تناول اختيار ابن تيمية، وإنما يقرر أولا اختيار ابن تيمية، ويحرر إن كان ثمة إشكال، ثم تناقش المسألة بطولها وعرضها، ثم يذكر الباحث ما ترجح لديه، وكان الأولى في نظري أن تتركز هذه الدراسة في دراسة اختيار ابن تيمية من جهة استمداده، ومن جهة تصنيفه وفرزه، ومن جهة تحليل مجموع الاختيارات، ومن جهة استخراج النتائج التي برزت من خلال التصنيف والفرز، فتكون على مرحلتين: مرحلة تصنيف وفرز، مرحلة تحليل وربط.
-يكون ذلك بعدة اعتبارات كالنظر الأصولي: في مدى أثر اختيار ابن تيمية بالنص أو الإجماع أو القياس أو قول الصحابي، أو إعمال الكلية المقاصدية، ففي الإجماع تدرس المسائل التي ادعي عليه فيها مخالفته الإجماع، وكيف جاز له ذلك، ثم احتجاجه بالإجماع، لاسيما وفي المسائل ما يصرح ابن تيمية بأنه لم يجد فيها من سبقه، ففي البحث تجاوز لبعض اختيارات ابن تيمية التي لم يسجل فيها الباحثون موافقا لابن تيمية فيمن سلف، ومع ذلك ساغ له ترجيح ذلك القول، كما ينبغي أن تدرس المحال التي يستدل بها ابن تيمية بالإجماع، ومدى اعتداده بالإجماع المتأخر في القضاء على الخلاف المتقدم، وما إلى ذلك.
-وفي القياس ينظر في الحدود التي سار فيها ابن تيمية ... وفي قول الصحابي تحصى المسائل التي رجح فيها ابن تيمية خلاف قول الصحابي الذي لا مخالف له ...
-ولا يقال: هذه دراسة أخرى أصولية، بل هي مجرد ملاحظة وتصنيف وفرز، لا تحتاج إلا إلى فصل في كل مجلد يعقد في تحليل نتائج الاختيارات، فالمادة متوفرة في اختيارات ابن تيمية الغنية بكل ما سبق، ثم يعقد في نهاية الموسوعة ما انتظم من هذه النتائج.
-وفي المذاهب ينظر إلى أين سار ابن تيمية في مساره الفقهي، ومدى أثر أهل الرأي، واطلاعه على أقوالهم على اختياره، وفي المالكية ما مدى اعتباره لأصولهم، وما أثر المد الظاهري في اختياره.
-وفي الأبواب الفقهية تسجل مناهج اختياراته في كل باب، وقد صنع هذا بعض الباحثين، إلا أنه لم يكن منهجاً عاماً في البحث.
-الخلاصة أن الكتاب موعَبٌ، وما أحسنه لو أنه صنِّف وفرز، لاسيما وأن ابن تيمية يمثل مدرسة هي بحاجة إلى تمييز اختياره الفقهي، ونظمها في أصوله، ولها أتباعها الذين قد انحبس بعض رجالاتها في تقليد آخر لابن تيمية، وقد أشار إلى هذا بعض الباحثين في هذه الموسوعة، فكشْف منهج ابن تيمية على جهة التفصيل هو حلٌ لبعض ما انعقد.
-كما أن المشروع بحاجة إلى مشروع صغير بعنوان: "المسائل التي وافق فيها ابن تيمية المذهب، وخالف فيها الجمهور"، فابن تيمية له انتصار بيِّن لجملة من مفردات الحنابلة التي خالف فيها أصحابُه الجمهور؛ لنعلم الأصول المختصة التي ارتضاها ابن تيمية في تمييز مذهبه عن مذهب الجمهور، لاسيما وأنه مع سعة اطلاعه، وتعدي اختياره، يبقى هذا المحل هو أحد أبرز دلائل بقائه في دائر الحنابلة، وإن كانت أصوله ودراسته قاضية بذلك مضموماً إليهما اتساع دائرة روايات أحمد التي أبقى تعددها ابنَ تيمية حنبليا متأبِّداً ولو خالف المشهور من المذهب، فهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو مذهب مالك وروية عن أحمد إلا في نزر يسير، إلا ما شاء الله.
-في الحقيقة هذه الملاحظات تولدت عندي من خلال الاطلاع على كثير من الأبحاث التي اشتغلت بالاختيارات الفقهية، فوجدت أكثرها تصب طاقتها في استخراج القول المختار ثم دراسة المسألة من حيث هي، والجيد منها ما تميز بدقة الاختيار وتحريره والجمع بين ما تعارض منه، وإذا ذهبت تفرز المادة الواقعة في الكتاب تجد أن أكثرها في نقاش المسائل: القول الأول، القول الثاني .... الأدلة .... الراجح في المسألة
حتى إن بعضهم يجعل في نهاية الكتاب ما وافقه صاحب الاختيار وما خالفه من الأقوال، وليس المهم هنا، فإن هذا قد يكون مبررا لو أن صاحب الرسالة كان مبرزا وجادا في تناول المسائل، وإن كان الأمر قد يكون ليس كذلك ... فالنصيب الأكبر من الكتاب هو في مناقشة المسائل الفقهية وذكر الراجح، ولو ذهبت تعصر المقدار المقصود من الكتاب وهو الاختيار ومتعلقاته لتقطَّر لك ثقيلا قليلا، أمابحث المسائل الفقهية فلها مظانها المعروفة في كتب أهل العلم، وترتيب العلم هو أحد المقاصد الكبيرة التي برزت في الجسد التصنيفي للفقهاء، أما هاهنا فلا بد أن
¥