في إخراجها محقَّقةً ومُوثَّقةً؛ بالرجوع إلى المصادر التي نقلت منها، فيا له من عملٍ شاقٍّ وجهدٍ كبير.
وقد اطَّلعت على منهج التحقيق فرأيته منهجاً سليماً من العيوب، بَذَلَ فيه الباحثون من شباب العلماء وطلاّب العلم غايةَ الجُهْد؛ بتوثيقٍ من الأقوال والفتاوى، وقاموا بعملٍ جليلٍ أخذ منهم وقتاً طويلاً، على أنّهم لا يدَّعون لأنفسهم العِصْمةَ والكمال، ولكنَّ الواقع يشهد لهم بذلك فجزاهم الله تعالى خيراً.
هذا وإنَّ مما هو جديرٌ بالذِّكر والقَوْل بأنّ كتابَ الحاشية للعلاّمة ابن عابدين أصبح بعد هذا التحقيق والتوثيق والرجوع إلى النُّسخة الخطيَّة الأصليَّة من أَهَمِّ الكتب للسَّادة الحنفية.
وقد اعتنى فيه بذكر الكتب المؤلَّفة، وذكر مؤلِّفيها وتراجمهم أخذاً من المراجع والمصادر التي تزيد على ستمئة وخمسين مصدراً.
وقد قام الدكتور الشيخ حسام الدين الفرفور بتحقيق المجلَّد الأوّل والثّاني، والمجلَّدات الخَمْس الأُخرى قام بتحقيقها جَمْعٌ مُبارَكٌ من شباب وخرِّيجي معهد الفتح الإسلاميّ، وجامعة الأزهر الشَّريف، وجامعة دمشق بإشراف الدكتور الشيخ حسام الدين الفرفور، والله تعالى وليُّ التوفيق.
كتبه
عبد الرزاق الحلبيّ
18جمادى الآخرة ـ عام 1420هـ
-------
تقديم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
رئيس قسم العقائد والأديان بجامعة دمشق
لم يصلني هذا السِّفر من العمل العلمي الجليل إلاَّ قبل أيام يسيرة من كتابة هذه المقدمة،
وفي غمرة انشغالي بإنجاز الجزء الأول من كتابي:"شرح الحكم العطائية"، فلم يتأتَّ لي متابعة الجهود العلمية الكبيرة والشاقة التي تنمُّ عنها مقدمة الأستاذ المحقق، والتي جاءت بعنوان:
((منهجنا في التحقيق والتعليق)).
ونظراً إلى أنَّ الوقت الذي أملكه لكتابة هذه الكلمة التي طُلِبَتْ مني ضيِّقٌ لا فسحة فيه، فقد اكتفيت ـ بعد الاستعراض السريع للجديد الذي أضيف إلى حاشية ابن عابدين رحمه الله
(وهي حقّاً ذخر علمي كبير واسع الآفاق متنوع المعارف والفوائد) ـ بقراءة المقدمة التي تضمنت المنهج المتبع لخدمة هذا الكتاب الفريد، وإجراء تطبيقات على هذا المنهج في غضون الكتاب وتضاعيفه.
والحقيقة أنَّ أيَّاً من النقاط الثلاث الأولى المتعلِّقة بتحقيق النصّ، وتخريج الآيات والأحاديث ونحوها، لم تستوقفني بأيِّ اهتمامٍ؛ إذ كنت ولا أزال أَعدُّ العُكوفَ على هذه النقاط التي يحصر المحقِّقون أنفسهم داخل أقطارها عملاً تقليدياً، لا يرقى إلى أيِّ قيمةٍ علميِّةٍ حقيقيّةٍ.
ولكنَّ الأمر الذي لفت نظري وأثار اهتمامي هو النقطة الرابعة التي وردت في المنهج، والمتعلِّقة بتوثيق المراجع والنصوص التي يصدرُ عنها ابن عابدين رحمه الله في حاشيته.
إنَّه لا شكَّ عملٌ مُضنٍ من حيث الجُهْدُ الذي يحتاج إليه، وذو أثرٍ علميٍّ كبيرٍ في نتائجه وآثاره.
فابن عابدين كان ـ إلى جانب علمه الغزير ـ مثالَ الأمانة في عَزْوِه ونُقُولِهِ وإحالاته، والمراجعُ التي أحال إليها كثيرةٌ ومتنوعةٌ جدّاً، أكثرها لا يزال مخطوطاً، وأكثرُ المخطوطات منها غريبٌ
ونادرٌ يعزّ العثور عليه ... ثم إنَّ الاستيثاقَ من النقل عن طريق المقارنة بين ما رواه ابن عابدين، وبين النصِّ المُثْبَت في المصدر المرويِّ عنه، يحتاج إلى جهدٍ مُضْنٍ وإلى مَزيد صَبْرٍ وأناةٍ! ..
وربما اختلط مصدرٌ معزوٌّ إليه بغيره، وتشابهت الأسماء ... أسماء الكتب، أو أسماء الرجال، فاحتاج الأمر إلى ذيولٍ متشعِّبة من تحقيقاتٍ تتطلَّب مزيداً من الجهد! ..
وبمقدار ما أُتيحَ لي الرجوع إليه من تطبيقات هذا المنهج، في غضون الكتاب وتضاعيفه، لاحظت السَّيْرَ العمليَّ والملتزم بتطبيق هذا المنهج.
إنَّني أُهنِّئ الأخ الأُستاذ الدكتور الشيخ حسام الدين فرفور على هذا العمل العلميِّ الرَّصين
الذي أخرج ما يسمَّى بتحقيق التراث من مجاله التقليديِّ المحدود في فائدته وأثره، إلى المجال العلميِّ والإبداعيِّ العظيم في أثره وفائدته.
كما أهنِّئُه أن اختار لهذا العمل كتاباً من أجلِّ كُتُب الشريعة الإسلاميَّة، ومن أغزرها فائدةً وعلماً، وأحوجها إلى هذا التحقيق المتميِّز.
ولئن جاءت أُطرُوحته التي نال بها درجة الأُستاذيَّة مقتصرةً على الجزء الأول والثاني
من قسم العبادات من حاشية ابن عابدين، فإنِّي لأرجو أن ينسجَ الإخوة الماضون في إكمال
هذا العمل على منواله، وأن يواصلوا جهودَهم وصبرَهم على طريق هذا التوثيق، حتى يولدَ
هذا الكتاب العظيم ولادةً جديدةً في إطارٍ جديدٍ ونادرٍ من القيمة العلميَّة المتميِّزة.
وعندئذٍ تتحوَّل حاشية ابن عابدين من مجموعة فروعٍ كثيفةٍ وكثيرةٍ، لا حصر لها، يتيه
في غمارها القارئ، إلى مجموعة أغصانٍ موصولةٍ أمام القارئ بجذعها ثم بجذورها. وقد كان العلم ولا يزال نَسَباً يحيا بامتداده، ويترسَّخ ببلوغ معينه. والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
دمشق
في /7/ رجب/ 1421 هـ محمد سعيد رمضان البوطي
الموافق لـ 5 /تشرين أول/ 2000م رئيس قسم العقائد والأديان بجامعة دمشق
المصدر
¥