وصلنا إلى منزله .. وغادرني وهو يضحك ..
اتصل بي أرسطو من الغد وقال لي: عزيزي حنبل سأكون غداً الساعة التاسعة مساءً ضيفاً في برنامج إسمه "مابعد الإرهاب" في أحد القنوات الخليجية .. ويسرني أن تتابع مشاركتي.
قلت: بكل سرور ..
وحين قاربت الساعة التاسعة أدرت الريموت على القناة.
بدأ البرنامج بمقدمات وضيوف متعددين .. وجاء دور صديقي أرسطو .. كان السؤال الذي وجِّه إليه عن رأيه عن إشكالية النصوص الدينية والاقتباسات الفقهية التي يتداولها الإرهابيون في رسائلهم كمبررات لأعمالهم.
فتنحنح صاحبي أرسطو .. وقال: والله ياسيدتي الكريمة .. شوفي يعني .. الحقيقة أنو الفكر الديني الذي يتداوله الإرهابيون –وهو بالمناسبة فكر شائع وليس مقصوراً على المنفّذين فقط- هو في جوهره ليس قراءة علمية معرفية تتغيا الوصول الحقيقي لمعاني نصوص القرآن والسنة والموروث الديني بماهو موروث ديني .. ياسيدتي هذه يمكن إنو إحنا نسميها "قراءة استغلالية" .. بمعنى هم يأخذون من الموروث الديني مايريدون، ويغيبون المضامين الأخرى التي تخدش أفكارهم! فهي قراءة "موجهة" تخدم أفكار مقررة مسبقاً .. لاحظتي معاي .. أما نصوص القرآن فهي نصوص سلمية وحقوقية مذهلة، بل إن الرسول الكريم نفسه في سيرته الشريفة يمكن القول أنه كان غاندياً قبل غاندي إن صح التعبير، وأنا هنا أقصد المعنى المجازي حتى لايسئ أحد فهمي، فضلاً عن إبداعات الشاطبي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم كثير ..
قالت المذيعة: آها شكرا لك .. يعني أنت ترى أن المشكلة ليست في النصوص وإنما في القراءة أو ماتسميها "القراءة الاستغلالية".
رد صاحبي أرسطو: بالضبط .. بالضبط .. هذه هي المشكلة ياسيدتي ..
وبعد أخذ عدة مشاركات أخرى لضيوف آخرين، رجع الدور إلى صاحبي أرسطو مرة أخرى، وكان السؤال هذه المرة: كيف يمكننا تقديم فكر سلمي وحضاري يتجاوز هذا المأزق الإرهابي؟:
فقال صاحبي أرسطو: أولاً قبل أن نذكر إنتاج خطاب سلمي وحضاري، يجب أولاً إنو إحنا نفهم ونستوعب مكونات مجتمعنا ياسيدتي .. مجتمعنا بيئة معجونة بالتدين كلياً ..
المذيعة: وماذا تريد أن تصل إليه بالضبط من ذلك؟
فقال صاحبي: ما أريد أن أصل إليه أن أي خطاب سلمي وحضاري يتجاهل المحتوى التراثي سوف يخسر رهاناته الاجتماعية قطعاً .. وبالتالي فإنه يجب أن ننتج خطاب سلمي وحضاري منغرس في التراث ذاته.
المذيعة: تقصد أن الخطاب السلفي التراثي هو الحل؟
صاحبي أرسطو: لا .. لا .. قطعياً .. السلفية هي المشكلة فكيف تكون جزءاً من الحل .. لا .. لا .. بتاتاً .. لا أقصد ذلك .. وإنما أقصد أن نقوم بقراءة للتراث توظف المفاهيم الحضارية فيه وتستغلها لبناء خطاب مدني معاصر، ونتجاوز المفاهيم التراثية المتعارضة مع منطق العصر .. ويجب أن تتم هذه القراءة بحذر شديد لئلا يتسرب إلينا أي مفهوم يتصادم مع الفكر الحضاري الحديث .. فمثل هذه القراءة الموجهة باتت ضرورية جداً اليوم لمجتمعاتنا ..
المذيعة: عزيزي كنت تقول قبل قليل أن مشكلة الفكر الإرهابي أنه قراءة استغلالية غير علمية للتراث، وأنت الآن تطالب بقراءة استغلالية للتراث. فأتمنى توضيح الفرق للمشاهد ..
حينها أطلقتُ ضحكةً أسمعت أهل المنزل كله .. ورميت الريموت على الشاشة وأغلقت الجهاز .. وأخذت أردد: الله يفشلك يا أرسطو .. حتى على الفضائيات عجزت أن تتخلى عن تناقضاتك العقلية!
يقول لها قبل شوي مشكلة السلفية أنها قراءة استغلالية غير علمية للتراث، ويوم جاء الحل: قال يجب أن نقوم بقراءة استغلالية للتراث!
وهكذا بقي صاحبي أرسطو يعوم بين أمواج التناقضات العقلية وهو يتصور أنه وأصحابه هم الذين اكتشفوا غياب العقلانية في الآخرين!
مرةً يقول لي مشكلة الصحوة أنها غائبة عن السياسة وجاهلة بالواقع والسياسة بحر متلاطم، ثم يأتيني لاحقاً ويقول مشكلة الصحوة أنها فكر مسيس يسعى للهيمنة والنفوذ واللعب على توازنات القوى.
ومرةً يقول لي مشكلة الصحوة هو سيطرتها على قنوات التعبير عن الرأي، ثم يأتيني لاحقاً ويقول ماهو تفسير إقصاء الاسلاميين عن الاعلام والصحافة؟
¥