تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كنتُ وقتها طالباً في آخر مرحلتي الثانوية بالمدينة المنورة فدلّني عليه أحد إخواني من أهل الفضل والعلم الشيخ الدكتور الأمين بن يوسف آل الشيخ مبارك الذي كان يدرس حينها في كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكان جاراً لنا وإماماً لمسجد حيّنا، فرغبني في لقاء الشيخ أحمدو في رحاب الروضة الشريفة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرُع ناظري منظره فقد كان الشيخ الذي قارب السبعين آنذاك قصير القامة نحيل الجسد كث شعر اللحية يتلوّى على بعضه ويجمع صدره إلى فخذيه في جلوسه واستلقائه، ويستر فاه بطرف عمامته يأتيه بعض طلبة العلم واحداً واحداً يقرؤون عليه من متون العربية أو يسألونه في مسائل الفقه واللغة فقد كان الشيخ أيضاً فقيهاً متمكناً في فقه المالكية حافظاً لمتون المذهب مشاركاً في تحقيق القول بأوجه الخلاف فيه رغم عزوفه عن ذلك وجنوحه إلى الدرس اللغوي.

كان لقائي الأول به عابراً سريعاً لاطفني فيه الشيخ بكلمات قليلات بعربية فخمة لم أعتدْ عليها أو قل إنني لم أتبين مدلولها فاكتفيتُ بالابتسام حينها ولم أجد ما يستدعي إقحام نفسي في ميدان هذا الرجل الذي لم أفقه كلماته، لكن أخي الدكتور الأمين وابن عمه عبد المنعم آل الشيخ مبارك حرّضاني على الانتفاع بهذا الرجل لاسيما أنني حينها كنت قد حفظت كتاب الله وبدأت أدرس قراءاته فكانت دلالتهما لي خير رشيد فجزاهما الله عني كل خير.

كان أول ما قرأته على الشيخ ألفية ابن مالك ونظراً لحداثة سني مقارنة بمن يأتي الشيخ من الكبار فقد كنتُ أؤخر قراءتي على الشيخ حتى ينفض عنه الناس أو يترحّل إلى بيته الكائن في شارع قباء الطالع حيث يعيش الشيخ في منزل متواضع جعله له أحد المحبين المريدين، وكان أول إرشاد له أن أقرأ من الألفية بيتاً أو بيتين ولا أزيد كما يفعل كثير ممن يقرأ عليه ممن يريدون القول إنهم تتلمذوا على فلان من أهل العلم حتى إن لم ينتفعوا بعلمهم، فكان ذلك حتى أتممت قطعة كبيرة من الألفية على الشيخ ولم يمنع من إكمالها سوى أن جزءها الباقي كان مقرراً علينا في كلية اللغة العربية فارتأيتُ حينها أن أقرأ على الشيخ متوناً أخرى فشرعت في قراءة منظومة لامية الأفعال في التصريف لابن مالك الجياني النحوي من مخطوطة كتبت بخط موريتاني قديم مزخرفة وملونة أعارها لي ابن الشيخ محمد مختار حفظه الله وهو عالم كأبيه غزير المعرفة شديد الحافظة متمكّن في علمه وكان كثيرا ما يسخر من حملة الشهادات العالية لما شاهده من كثير منهم من قلة بضاعتهم من العلم، وقد كانت أولى تجاربي في قراءة الخط المغربي الذي تفنن فيه كاتبه وكان يعينني في قراءة المخطوط أن الشيخ أحمدو كان يحفظ الشروح ولاسيما الاحمرار وهي شروح مكتوبة بالخط الأحمر على حواشي لامية الأفعال لعدد من علماء موريتانيا الكبار ممن كان يحتفي بهم الشيخ كثيرا ويذكرهم وبعضهم من مشايخ والده أو أعلى.

ومطلع لامية الأفعال:

الحمد لله لا أبغي به بدلا = حمدا يبلّغ من رضوانه الأملا

ثم الصلاة على خير الورى وعلى = ساداتنا آله وصحبه الفُضَلا

وبعد فالفعل من يُحكِم تصرفه= يحُزْ من اللغة الأبواب والسُّبلا

فهاك نظماً محيطاً بالمهم وقد =يحوي التفاصيل من يستحضر الجملا

وقد قدّر الله لي أن ختمت لامية الأفعال ودونت في حواشيها الكثير من فرائد الشيخ ونوادره ونكاته العلمية التي لم تكن تنقطع في مجالسه فإذا غصت حواشي المخطوط كتبتُ في كُنّاشتي الصفراء (دفتر تعليقات) ما لم يجد مكاناً يسكنه فكان الشيخ يضحك من حرصي ويقول:

لابد للطالب من كُنّاشِ = يكتب فيه راكباً أو ماشي

ثم قرأت على الشيخ رحمه الله منظومة تحفة المودود في المقصور والممدود وهي منظومة همزية لغوية بمعانٍ زُهدية تزيد عن مائة وستين بيتاً لابن مالك النحوي أيضاً تتناول المفردات الممدودة والمقصورة في اللغة العربية، ومطلعها:

بدأت بحمد الله فهو ثناء = وللنطق منه بهجة وبهاء

وبالآل والأصحاب ثنيت مُثْنِياً = بخير الثنا إذ هم به جُدَراء

وبعد فإن القصر والمد من يُحِط = بعلمهما يَسْتسْنِه النبهاء

وقد يسر الله انتهاجَ سبيله = بنظمٍ يَرَى تفضيله البُصَراء

ثم تبعتُ ذلك بقراءة مقصورة أبي بكر ابن دريد الشهيرة وشرحها لابن خالويه:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير