يا ظَبيَةً أَشبَه شَيءٍ بِالمَها = تَرعى الخُزامى بَينَ أَشجارِ النَقا
إِمّا تَرَي رَأسِيَ حاكى لَونُهُ = طُرَّةَ صُبحٍ تَحتَ أَذيالِ الدُجى
ولم أقضِ فيها طويلاً فقد ختمتها على الشيخ في أسبوع، وقد شدّني الشيخ بعجيب حفظه وشدة استقصائه لشواهد المفردات في هذه المقصورة.
ثم نصحني الشيخ بحفظ منظومة الإعلام بمثلث الكلام لابن مالك فهي ثروة لغوية هائلة مع شرح عجيب ضمنه الناظم فيها وجملة أبياتها تزيد عن ثمانمائة وألفين:
إتباعُ حمْدِ الملك الوهاب = صَلاته على الرضا الأوّاب
محمدٍ وآله الأنجاب= به ابتهاج النطق في الكتاب
وبعد فالأولى بأن تُجْلَى له= بنات فكر ناسبت إجلاله
ملْكٌ يباري فضلُه إفضاله = في نصر أهل العلم والآداب
إلى أن يقول:
لما علمتُ أنه ذو أرَبِ = إلى اتساع في كلام العرب
رأيت أن أجعل بعض قُرَبي =له كتابا فيه ذا احتساب
أحوي به أكثر تثليث الكَلِم =نحو حَلَمْتَ وحَلُمْتُ وحَلِم
فحوز هذا الفن محمود مهم = به اعتنى قدما أولوا الألباب
وها أنا آتي به مبوبا =على الحروف بينا مرتبا
ملخصا مخلصا مهذبا = ينقاد معناه بلا استصعاب
وقد قرأتُ معظمه على الشيخ من نسخة مطبوعة في مصر وأخرى في الهند وهما كثيرة الغلط والتحريف ولولا حافظة الشيخ رحمه الله لأضلتنا هذه النسخ المطبوعة التي يخرجها من خلاق له في التحقيق واستنساخ المصادر العلمية فهذه تتطلب علماء يحسنون القراءة ويوجهون عن علم لا عن ظن.
وأثناء ذلك قرأنا شطرا من المعلقات على الشيخ أحمدو وعلى ابنها مختار ولم أكن لأدانيهما في كثرة المحفوظ من المنظوم والمنثور فألتقط ما أستطيع التقاطه إذ إنهما سريعا التلقين ولا يميل الشيخ إلى التفهيم وبسط الشرح كحال ابنه مختار، فإذا اعتاص عليّ شيئ ملت به إلى مختار فأجد عنده الجواب الشافي.
ثم قرأنا على الشيخ رحمه الله منظومة السلّم المنورق في علم المنطق للصدر الأخضري فبان لنا أن الشيخ يكره هذا الفن رغم حرصه على تعليمه ولولا فتوى بعض الأكابر بجواز تعليمه وتدريسه لحاجة العلماء له لصدّ عنه، ومطلع المنظومة:
الحمد لله الذي قد أخرجا = نتائج الفكر لأرباب الحِجا
وَحَطَّ عَنْهُمْ مِنْ سَمَاءِ العَقْلِ = كُلَّ حِجَابٍ مِنْ سَحابِ الجَهْلِ
حَتى بَدَتْ لَهُمْ شُمُوسُ المَعْرِفةْ = رَأَوْا مُخَدَّراتِها مُنْكَشِفَةْ
وكنا خلال ذلك نسترق من وقت الشيخ بعد صلاة الفجر أو عند شروق الشمس في الحرم النبوي فنقرأ عليه من الكامل للمبرد أو الأمالي للقالي فانتفعنا بذلك كثيراً.
وقد أمضينا مع الشيخ خمس سنوات حافلة حملنا عنه ما لم نحمله من الجامعات وأقسام الدراسات العليا فهو جامعة ضخمة بل مكتبة هائلة يحفظ سجلاتها في صدره رحمه الله.
ومما وقفنا عليه من أحوال الشيخ رحمه الله أنه كان كثير العبادة والصلاة والاستغفار لا أكاد أجده إلا ذاكراً أو مصلياً أو تالياً لكتاب الله من حافظته، وكنا إذا أردنا القراءة على الشيخ نبحث عنه في أركان الحرم النبوي حيث كان يغير مواضع جلوسه فتارة تجده في الروضة ولاسيما بعد شروق الشمس وتارة في الحصوة أي الساحة المكشوفة الأولى من الحرم وتارة في زوايا الأركان، وكان يطلب إلينا ألا نحتشد عنده خشية أن يأتي أحد من العاملين في هيئة الحرمين فيضر به لأنه لا يحمل ترخيصا بالتدريس وهذا ما كان يجعله دائم الغضب والنكير من منع العلماء من تعليم الناس، وقد دفعه هذا لترك تلك الديار الطاهرة والعودة إلى موطنه بعد ذلك لينشر علمه وهو ما كان له رحمه الله.
كان الشيخ رحمه الله يغتذي بالتمر واللبن ولم أره يوماً يتناول طعاماً غيره إلا مرة واحدة دعانا إلى غداء عنده فقدّم لنا بعض لحم الضأن غير المنضج فنسل منه قطعة صغيرة امتضغها ثم تناول لبنه.
كان الشيخ كثير التمرين لتلاميذه، وقد كان الشيخ يستثمر رحلته ماشياً إلى منزله لمرافقتنا فكان يلقي علينا مسائل التمرين في العربية نحوها وصرفها ولغتها ويحاورنا في جوابنا، وكانت أجمل فرصي يوم أن أرافقه وحدي فألقى منه الكثير من الرعاية والاهتمام ولعله كان يفعل ذلك بغيري فهذا دأبه رحمه الله.
ومن أطرف ما وقع لي في شأن ذلك أنني مررتُ بالشيخ رحمه الله وهو يصلي إلى أسطوانة أبي لبابة في الروضة الشريفة فظننته أول الأمر واقفاً لغير صلاةٍ فسلمتُ عليه فمدّ لي يده وصافحني وهو في صلاته وأراد بذلك تنبيهي على جواز ذلك في مذهب الإمام مالك رحمه الله.
كان الشيخ رحمه الله دائم الفكرة قليل الكلام باسم الوجه حلو المعشر جم التواضع يريحك بطَلّته ويحب ممازحة تلاميذه ومضاحكتهم، فيه هيبة العلم وحلم العالم وقد رأينا ذلك في صبره على تجرّؤ بعض الأدعياء عليه ناسبين إليه الأشعرية أو التصوّف دون أن يعرفوا من حاله شيئاً أو يتبينوا إن كان كذلك أم لا! فلم يكن يرد عليهم أو يلتفت لهم بل كان بعضهم يأتيه ويقرأ عليه وهو يعلم أنهم ينسبون له ما يسمونه البدعة – ولم تكن فيه – دون أن يكون لهم دليل سوى أنه لم يصرّح للناس بمقالتهم التي يقولون بها على جهة التفصيل وما دروا أنه لم يكن من محبي علم الكلام أو أهله.
وكان الشيخ رحمه الله دائم السؤال عن أحوال أهلنا في فلسطين وكان يؤذيه ما يسمع من قتلهم واستهدافهم ويحوقل ويسترجع كلما بلغه يحزنه عن أحوال فلسطين وكان يردد على مسامعي: متى تكون للعرب شوكة يكسرون بها هؤلاء اليهود!!.
رحم الله الشيخ أحمدو وأسبغ عليه من رحمته وجزاه الله عن العلم والعلماء خيراً.
د. أسامة جمعة الأشقر
المدير العام لمؤسسة فلسطين للثقافة
دمشق 14/ 4/2007
¥