وأما أيهم أعلم: فإن معنى العلم أن يكون عند المرء من رواية ذلك العلم وذكره لما عنده منه، وثباته في أصول ذلك العلم الذي يختص به أكثر مما عند غيره من أهل ذلك العلم، والذي كان عند أبي حنيفة من السنن فهو معروف محدود وهو قليل جداً، وإنما أكثر معوّله على قياسه ورأيه واستحسانه، كما روي عنه أنه قال: علمنا هذا رأي، فمن أتى بخير منه أخذناه.
وأما الذي عند مالك فهو كله في موطئه، قد جمعه وشيء يسير قد جمعه الرواة عنه مما ليس في الموطأ، وذلك جزء صغير، قد حُصِّل كل ذلك وضبط، ولا يسع أحداً أن يظن به أنه كان عنده علم فكتمه، وأحاديث صحاح فجحدها، نعوذ بالله من ذلك، فقد قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فبنذوه وراء ظهورهم} آل عمران 187، وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} البقرة آية 1590160.))
ويقول ((وأما الفتيا بالرأي فليس علماً ولا فضيلة، ولا يعجز عنه أحد، بل هو مذموم من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعون بعدهم، وهم يُقرّون على أنفسهم بذلك:
فهذا ربيعة يقول للزهري: أنا أخبر الناس برأيي، فإن شاؤوا أخذوه، وإن شاؤوا ضربوا به الحائط.
قال أبو محمد رحمه الله: ولعمري إن شيئاً يكون سامعه بالخيار في أن يضرب به الحائط، فحق أن يتعجل ضرب الحائط به، وأن لا يفتي به في الدين، ولا يخبر به عن الله عز وجل.
فهذا مالك يقول عند موته: وددت أني ضُربت لكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط ().
قال أبو محمد رحمه الله (): ولعمري إن ما ندم عليه صاحبه هذه الندامة عند الموت، فإن القاطع به في دماء المسلمين وفروجهم وأموالهم وأبشارهم ودينهم لمخذول.
وهذا ابن القاسم يقول: لا تُباع كتب الرأي؛ لأننا لا ندري أحق هي أم باطل.
قال أبو محمد رحمه الله: ولعمري إن ما لم يقطع على جواز بيع كتبه ولم يدر أحق هي أم باطل لبعيد عن أن تجوز الفتيا به في الإسلام، أو أن يخبر به عن الله تعالى.
وهذا سحنون يقول: ما ندري ما هذا الرأي، سفكت به الدماء واستحلت به الفروج.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان لا يدري ما هو فالذي أخذه عنه أبعد من أن يدريه لو نصحوا أنفسهم.
هذه أحكام ظاهرة الصدق لا ينكرها إلا ذو حمية يأنف أن يهتضم دنياه وتبطل اشرعته،: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} الشعراء آية 227.
وأما الشافعي فإنه لا يجيز الرأي أصلاً، وهذا أحمد وإسحق بن راهويه وسائر المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الحديث، وأما داود فأمره في إبطاله أشهر من أن يتكلف ذكره.
ولا فرق بين رأي مالك وأبي حنيفة ورأي الاوزاعي ورأي سفيان ورأي ابن أبي ليلى، ورأي ابن شبرمة، ورأي الحسن بن حي، ورأي عثمان البتي، ورأي الليث، وكل ذلك رأي، لا فضل لبعضه على بعض، وكل هؤلاء مجتهد مأجور، وكل من قلّد واحداً منهم مخطئ ملوّم غير معذور.
فإذ هذه صفة الرأي بإجماع الأمة كلها، وإنما هو حكم بالظن، وتخرّص في الدين، فليس يستحق المكثُر منه ومن القول به صفة العلم؛ لأنه ليس علماً، ولا حفظه من العلم بسبيل، وإنما هو اشتغال بالباطل عن الحق، وباب من كسب المال، ووجة من التسوّق والترؤس على الجيران، وعند الحكام فقط، وصناعة من صناعات المتأجِّر، وقد خاب وخسر من جعل هذا عُرضة من دينه، نعوذ بالله من الخذلان.
وإنما العلم ما ذكرنا من المعرفة بأحكام القرآن، وما صح عن رسول الله ص، ومعرفة ثقات الناقلين للسنن، وما أجمع عليه المسلمون، وما اختلفوا فيه، فهذا هو العلم، وحامله هو العالم لا ما سوى ذلك.
¥