[حسن التلقي و آداب التعلم]
ـ[ابو مريم الجزائري]ــــــــ[02 Aug 2007, 07:57 م]ـ
السلام عليكم و رحمة الله
هذا التعليق اورده الامام عبد الحميد بن باديس في درس تفسير الآية 114 من سورة طه الذي نشرته مجلة البصائر سنة 1937 م:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رّبّ زدني علما" [طه: 114]
من أدب المتعلم: لا حياة إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالما إلا من كان متعلما، كما لن يصلح معلما إلا من قد كان متعلما.
ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي بعثه الله معلما كان أيضا متعلما: علمه الله [سبحانه و تعالى] بلسان جبريل [عليه السلام]، فكان متعلما عن جبريل [عليه السلام] عن رب العالمين [سبحانه و تعالى]، ثم معلما للناس أجمعين.
أرأيت أصل العلم ومن معلموه ومتعلموه؟
ثم أرأيت شرف رتبة التعلم والتعليم؟!
لا جرم كان لرتبة التعلم آدابهما. وكان محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أكمل الخلق في آدابهما؛ بما أدبه الله [سبحانه و تعالى]، وأنزل عليه من الآيات فيهما، مثل آيتنا اليوم وغيرها.
لزوم الصمت عند السماع:
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أنزل عليه جبريل ـ عليه السلام ـ بالوحي وقرأه عليه، قرأ معه وساوقه في القراءة. كان ذلك منه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لحرصه على حفظه وعدم نسيانه، حتى يبلغه كما أنزل عليه.
ولأن تعلق قلبه بما سمع من جبريل [عليه السلام]، وامتلاءه به، واستيلاء ذلك المسموع على لبه، يدعوه إلى النطق به، لما بين القلب واللسان من الارتباط؛ ولأن شوقه إلى ذلك المسموع ومحبته ورغبته فيه، تبعثه على التعجل بقراءته.
غير أن القراءة عند السماع، وقبل تمام الإلقاء، تمنع تمام الوعي؛ لأن عمل اللسان بالنطق يضعف عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا نهى الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل، من قبل أن يقضى ويتمم إليه وحيه، فقال تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه".
تأكيد الصمت بكف اللسان: لا يتم تفرغ القلب للوعي إلا بسكون اللسان، فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع حتى ينكف اللسان عن الحركة، فلا تكون قراءة لا جهرا ولا سرا، فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى: "لا تحرك به لسانك لتعجل به". [القيامة: 16]
ثم بين أن الله يجمعه في قلبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحفظ، وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله: "إن علينا جمعه وقرآنه". [القيامة: 17] أي قراءته إياه.
ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل [عليه السلام] إذا قرأه عليه، فيقرأه كما قرأه بعد فراغه، بقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه" [القيامة:18]. أي فإذا قرأه جبريل [عليه السلام] وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأه كما قرأه. وأنه سبحانه و تعالى يبينه بأقوال نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأفعاله بقوله: " ثم إن علينا بيانه" [القيامة: 19].
هذا الأدب أدب عام: إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام ليفهم المراد.
فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض، مما يلقيه إليه المعلم، حتى يفرغ المعلم من لقائه، كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته.
وعلى قارئ لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه.
وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك.
فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم فيحفظ، وفهم المناظر فيرد ويقبل، وفهم القارئ فيعرف ما يأخذ ويترك، وفهم السامع لتحصل فائدة الاستماع.
وبترك هذا الأدب كثيرا ما يقع سوء الوعي أو سوء الفهم، وفوات القصد من المناظرة والقراءة أو الكلام.
دوام العلم للازدياد من العلم: يتعلم الإنسان حتى يصير عالما ويصير معلما، ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه أشياء مجهولة يحتاج إليها.
فعليه أبدا أن يتعلم، وأن يطلب المزيد، ولذا أمر الله نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو المعلم الأعظم ـ أن يطلب من الله ـ وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم ـ أن يزيده علما فقال. " وقل ربّ زدني علما" [طه: 114].
تحذير واقتداء:
ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا عليه من علم، فوقف بهم عند ما انتهوا إليهن فجدوا وأكسبهم الغرور بما عندهم، فيعظموا ويكلموا فيما لم يعلموا، فظلوا وأضلوا، وكانوا على أنفسهم و على الناس شر فتنة وأعظم بلاء.
فبمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلى بهذا المرض، فيقلع عن جموده وغروره، ويقتدي بهذا النبي الكريم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلن يزال يطلب من الله تعالى أن يزيده علما بما ييسر له من خزائن رحمته، وما يلقيه في قلبه من نور، وما يجعل له من فرقان، وما يوفقه الله سبحانه إليه من أصل ذلك كله
¥